ساد الصمت بينهما للحظات، والليل يلف المكان بظلامه، والنجوم المتناثرة على السماء وكأنها تشهد على ذلك الحوار المنتظر. نهى كانت تشعر أن قلبها يخفق بقوة، وكأنها تقف على حافة اكتشاف سيغير حياتها. أما يوسف، فكان يشيح بوجهه نحو النيل، وكأنه يبحث في المياه الجارية عن كلمات تعينه على الاعتراف.
تنهد بعمق وقال: "نهى، أنا لم أكن صريحاً معك منذ البداية، ليس لأنني أردت خداعك، ولكن لأنني لم أستطع مواجهة نفسي بالحقيقة قبل أن أواجهك بها. أنا كنت متزوجاً من قبل."
شعرت نهى وكأن الأرض تهتز تحت قدميها. ازدادت دقات قلبها، وأخذت أنفاسها تتسارع. التفتت إليه وقالت بصوت مرتجف: "متزوج؟! ولم تخبرني؟"
هز رأسه ببطء وقال: "نعم، كنت متزوجاً منذ خمس سنوات. كانت زواجاً تقليدياً فرضته العائلة، ولم يكن بيننا تفاهم. عشنا معاً عاماً واحداً، ثم انفصلنا. لم تكن خيانة ولا خديعة، فقط اختلافات لا يمكن إصلاحها. لكنني بقيت فترة طويلة أرفض الارتباط مرة أخرى خوفاً من تكرار التجربة."
ظلت نهى صامتة لثوانٍ، وهي تحاول استيعاب ما قاله. شعرت أن عقلها يريد أن يلومه لأنه أخفى عنها، لكن قلبها لم يتوقف عن التعلق به. قالت أخيراً: "يوسف، أنا لا ألومك على الماضي، لكن كان يجب أن أكون على علم. الثقة أساس أي علاقة."
اقترب منها يوسف وأمسك بيديها قائلاً: "أعلم أنني أخطأت، لكن صدقيني يا نهى، منذ أن عرفتك وأنا أشعر أنني أريد بداية جديدة. أنت مختلفة عن كل ما عرفته. كنت خائفاً أن تصدمك الحقيقة وتبتعدي."
نظرت نهى في عينيه، فرأت صدقاً لم تستطع إنكاره. ومع ذلك، بقي في داخلها شيء من القلق، خصوصاً بعدما تذكرت المكالمة الغامضة التي تلقتها. لم يكن الزواج وحده هو السر، بل ربما هناك المزيد.
مرّت الأيام التالية متوترة. نهى لم تعد كما كانت، أصبحت تفكر كثيراً، وتتردد في الرد على رسائل يوسف. وهو بدوره شعر بالمسافة التي بدأت تنمو بينهما، فقرر أن يثبت لها صدقه. دعاها إلى زيارة أسرته في مدينة الإسكندرية، قائلاً إنه يريدها أن تعرف كل شيء عنه بلا أسرار.
ترددت في البداية، لكنها وافقت أخيراً، علّها تجد الإجابة عن الأسئلة التي تلاحقها.
وصلت نهى إلى الإسكندرية في صباح مشمس. كان البحر هادئاً، ورائحته المالحة تعبق في الجو. استقبلها يوسف عند محطة القطار بابتسامة حقيقية أعادت إلى قلبها بعض الطمأنينة. قادها إلى منزل عائلته القديم في حي شعبي، حيث استقبلتها والدته بترحاب ودفء جعلها تشعر وكأنها واحدة من العائلة.
خلال الجلسة العائلية، عرفت نهى أن يوسف هو الابن الأكبر لثلاثة أشقاء، وأن والده توفي منذ سنوات، مما جعله يتحمل مسؤولية كبيرة تجاه أسرته. والدته تحدثت بفخر عن التزامه ودعمه المستمر للعائلة، وهو ما زاد من احترام نهى له.
لكن بينما كانت تتجول في أرجاء البيت، لاحظت على رف خشبي صورة قديمة ليوسف مع امرأة شابة تحمل بين يديها طفلاً صغيراً. تجمدت في مكانها، والتفتت ببطء نحو يوسف وسألته: "من هذه؟"
ارتبك يوسف للحظة، ثم قال: "هذه زوجتي السابقة… والطفل ابني."
كانت الصدمة أكبر هذه المرة. جلست نهى على الأريكة، عاجزة عن الكلام. لم يكن الأمر مجرد زواج وانفصال، بل هناك طفل أيضاً.
جلس يوسف بجانبها وقال بصوت مبحوح: "لم أجرؤ على إخبارك من قبل. نعم، لدي ابن اسمه عمر. يعيش مع والدته، وأراه بين الحين والآخر. انفصالنا كان مؤلماً، لكن الطفل بقي أجمل ما في تلك المرحلة. لم أخبرك خوفاً من أن تبتعدي، فأنا أعلم أن الأمر ليس سهلاً."
أدمعت عينا نهى، ليس فقط من الصدمة، بل لأنها شعرت أن قلبها في صراع. أحبت يوسف بصدق، لكن فكرة أن يكون له ابن من زواج سابق أربكتها. لم تكن تتخيل نفسها في هذا الموقف من قبل.
في تلك الليلة، لم تستطع النوم. ظلت تفكر في يوسف، في حبهما، وفي الطفل الذي يشكل جزءاً من حياته. تذكرت مكالمة المرأة الغامضة، وأدركت أنها ربما كانت زوجته السابقة، تحذرها من الدخول في علاقة مع رجل لديه ماضٍ معقد.
في الصباح، جلسا معاً على شاطئ البحر. كانت الأمواج تتلاطم برفق، والهواء عليل. قال يوسف: "نهى، أعلم أن الأمر صعب، وربما ترين أنني لم أكن صريحاً منذ البداية. لكنني أريد أن أبدأ معك بصدق من الآن. أنا أحبك، وأتمنى أن نكمل حياتنا معاً، لكنني لا أستطيع أن أنكر وجود ابني. هو جزء مني."
ظلت نهى صامتة، تنظر إلى البحر. كانت مشاعرها متناقضة، بين حبها له ورغبتها في حياة مستقرة، وبين خوفها من أن يعيد الماضي نفسه ويجعلها تعيش في ظل ذكريات لم تكن جزءاً منها.
مرت أسابيع من التوتر. يوسف حاول بكل الطرق أن يثبت لها صدقه ووفاءه، بينما كانت هي تعيش صراعاً داخلياً. حتى جاء اليوم الذي دعتها فيه لحضور حفل صغير بمناسبة عيد ميلاد ابنه.
هناك، رأت الطفل عمر لأول مرة. كان في الخامسة من عمره، بعينين بريئتين تشبهان والده كثيراً. حين اقترب منها بخجل وقال: "أنتِ صاحبة بابا؟"، شعرت نهى بشيء مختلف. لم يكن طفلاً غريباً، بل كائناً بريئاً يبحث عن الأمان. لم تتمالك دموعها وهي تجلس بجانبه وتلعب معه.
ذلك اليوم غيّر الكثير داخلها. أدركت أن حبها ليوسف لا يعني أن تنكر ماضيه، بل أن تقبله كما هو.
وفي مساء نفس اليوم، وقفت مع يوسف على شرفة المنزل، والنسيم العليل يمرّ بينهما. قالت له: "يوسف، أنا لا أنكر أنني صدمت كثيراً، لكنني أيضاً لا أستطيع أن أتجاهل مشاعري. أحبك، وأريد أن أكون جزءاً من حياتك، بكل ما فيها. ابنك سيكون ابني أيضاً، إذا أردت أن تمنحني هذه الفرصة."
احتضنها يوسف بقوة، والدموع في عينيه. قال: "أنتِ هديتي الحقيقية من الحياة يا نهى. شكراً لأنك قررتِ أن تبقي."
مرت الشهور التالية، وتغيرت العلاقة بينهما. لم تعد نهى تشعر بالقلق من الماضي، بل أصبحت جزءاً من الحاضر. تعلمت كيف تحب يوسف وابنه معاً، وكيف تصنع لنفسها مكاناً في حياتهما. أما يوسف، فكان ممتناً في كل يوم لأنه وجد امرأة قادرة على أن ترى قلبه قبل تاريخه.
وبعد عام من أول لقاء بينهما في ذلك المقهى المطل على النيل، جلس يوسف مرة أخرى على نفس الطاولة، ومعه نهى، لكن هذه المرة كان يحمل في يده علبة صغيرة بها خاتم. جثا على ركبته أمامها، وقال بصوت خاشع: "نهى، هل تقبلين أن تكملي حياتك معي زوجة وحبيبة وأماً لعمر؟"
ابتسمت نهى والدموع تنهمر من عينيها، ثم أجابت: "نعم، أقبل."
ارتفعت أصوات التصفيق من رواد المقهى الذين شهدوا اللحظة، بينما النيل في الخلفية يعكس ضوء القمر وكأنه يبارك بداية جديدة لقصة حب واقعية، مليئة بالتحديات، لكنها أيضاً مليئة بالصدق والوفاء.