كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، والمدينة تغرق في ضباب كثيف يخفي تفاصيل الشوارع القديمة. الأنوار البرتقالية للمصابيح العمومية بالكاد تُظهر ملامح الأرصفة، بينما صوت السيارات المتأخرة يتردد بين الأزقة الضيقة. في وسط هذا المشهد الموحش، كانت "ليلى" تمشي بخطوات سريعة، تنظر خلفها بين الحين والآخر وكأنها تشعر أن أحدهم يتعقبها.
ليلى، صحفية شابة تعمل في جريدة محلية، اشتهرت بقدرتها على كشف الفضائح وفضح قضايا الفساد. لكن هذه المرة لم يكن الموضوع مجرد فضيحة اقتصادية أو خبر عابر، بل كان شيئًا أكبر بكثير… شيئًا يهدد حياتها.
قبل يوم واحد فقط، وصلتها رسالة غامضة عبر البريد الإلكتروني، تحمل عبارة قصيرة:
"إذا أردت أن تعرفي الحقيقة عن المدينة… تعالي إلى المخزن المهجور في الميناء منتصف الليل."
رغم شعورها بالخوف، لم تستطع مقاومة فضولها الصحفي. حملت حقيبتها، ووضعت مسجلًا صغيرًا في جيبها، وتوجهت إلى الميناء.
اللقاء الغامض
عندما وصلت، وجدت باب المخزن الحديدي مفتوحًا قليلاً. دفعت الباب بحذر، فانفتح مصحوبًا بصرير طويل كأن المكان لم يُفتح منذ سنوات. دخلت، وإذا برجل ملثم يقف في الظلام، لا يظهر منه سوى عينين تلمعان بحدة.
قال بصوت منخفض:
– "لم يكن من الحكمة أن تأتي وحدك."
ارتجفت ليلى، لكنها تماسكت وردت:
– "أنا هنا لأعرف الحقيقة، كما قلت في رسالتك. من أنت؟"
تردد الرجل قليلاً ثم مد لها ملفًا بني اللون وقال:
– "اقرئي هذا… لكن اعلمي أن حياتك لن تعود كما كانت بعد الليلة."
وقبل أن تسأل أو تفتح الملف، سمعت فجأة صوت طلق ناري يخترق الهواء. الرجل سقط على الأرض مضرجًا بدمائه، بينما ارتفع صدى الرصاص داخل المخزن الخالي.
صرخت ليلى وتجمدت في مكانها. أمسكت الملف بسرعة وهربت من الباب الخلفي قبل أن يراها أحد. كانت تسمع أصوات أقدام تقترب، لكنها اختفت في الضباب قبل أن يُقبض عليها.
الملف الممنوع
عادت ليلى إلى شقتها وهي تلهث. جلست على مكتبها وبدأت تفتح الملف بيد مرتجفة. كان يحتوي على صور لمعامل سرية، تقارير عن تجارب مشبوهة، وأسماء لشخصيات نافذة في المدينة: رجال أعمال، مسؤولون كبار، وحتى بعض رجال الشرطة.
لكن ما لفت انتباهها حقًا هو اسم مذكور أكثر من مرة: "شركة نوفا بيوتك". شركة أدوية معروفة بتمويل المستشفيات وإطلاق حملات خيرية، لكن الملف كشف عن وجه آخر… تجارب غير قانونية على البشر، وأدوية تجريبية تسببت في وفيات عديدة جرى التستر عليها.
همست ليلى لنفسها:
– "يا إلهي… إذا كان هذا صحيحًا، فنحن أمام كارثة."
لكنها لم تدرك أن هناك كاميرا صغيرة مثبتة على سطح البناية المقابلة لشقتها، تنقل كل تحركاتها مباشرة لأشخاص مجهولين.
المطاردة تبدأ
في صباح اليوم التالي، تلقت ليلى اتصالًا من رقم مجهول:
– "نحن نعرف ما أخذتِه من المخزن… أعيدي الملف، وإلا ستكون العواقب وخيمة."
أغلقت الخط بسرعة وقلبها يخفق بقوة. قررت أن تلجأ إلى شخص تثق به، وهو صديقها القديم "آدم"، محقق خاص ترك الشرطة بعد أن اصطدم بالفساد الداخلي.
ذهبت إليه في مكتبه المتواضع. عندما رآها شاحبة ومرعوبة، قال لها بقلق:
– "ليلى، ماذا حدث؟"
قصت عليه القصة كاملة، ووضعت الملف أمامه. تفحص الأوراق بعناية وقال:
– "إذا صحت هذه الوثائق، فشركة نوفا بيوتك ليست مجرد مؤسسة دواء… إنها شبكة إجرامية تمتد داخل الحكومة نفسها. لكن نشر هذا الآن سيجعلك هدفًا مباشرًا."
ابتسمت بمرارة:
– "أنا بالفعل أصبحت هدفًا."
لعبة القط والفأر
بدأ آدم يساعد ليلى في التحقق من صحة المعلومات. زارا مختبرًا سريًا مدونًا في الأوراق، لكنهما وجداه فارغًا، وكأن أحدهم أفرغ المكان منذ وقت قصير.
وفي الليلة التالية، أثناء عودتها إلى المنزل، لاحظت ليلى سيارة سوداء تتبعها في كل مكان. غيرت طريقها أكثر من مرة، لكن السيارة بقيت خلفها. عندها أدركت أن حياتها لم تعد ملكًا لها.
في إحدى اللحظات، اعترضت السيارة طريقها، ونزل منها رجلان بملابس سوداء. حاول أحدهما خطف حقيبتها، لكنها تمسكت بها وصرخت بأعلى صوتها. تدخل بعض المارة، فهرب الرجلان بسرعة، لكنهما تركا رسالة واضحة: "لن نتوقف حتى نحصل على الملف."
الخيانة
بينما كانت ليلى وآدم يبحثان عن وسيلة آمنة لنشر الوثائق، قررا الاتصال بصديق قديم لآدم داخل الشرطة يُدعى "المقدم رامي". كان معروفًا بنزاهته، واعتقد آدم أنه الوحيد الذي يمكن أن يساعدهما.
لكن ما لم يعرفاه أن رامي أصبح منذ فترة على قائمة رواتب الشركة المشبوهة. عندما رأى الملف، تظاهر بالدهشة، ثم وعد بحمايتهما. إلا أنه اتصل سرًا بمدير الشركة ليبلغه بالأمر.
ليلة كاملة مرت وليلى تشعر بشيء غريب. همست لآدم:
– "لا أعرف لماذا، لكنني لا أثق في رامي."
ابتسم آدم محاولًا تهدئتها:
– "ربما مجرد توتر."
لكن بعد ساعات قليلة، داهم رجال مسلحون الشقة التي يختبئون فيها. لولا أن ليلى لاحظت انعكاس الضوء من أسلحتهم في النافذة، لتم القبض عليهما. هربا بصعوبة من الممر الخلفي، بينما تأكدت شكوكها: رامي خانهم.
الحقيقة الكاملة
في إحدى الليالي، جلس آدم يقرأ الأوراق مرارًا وتكرارًا، حتى اكتشف شيئًا لم يلاحظه من قبل: جميع الوثائق مرتبطة ببرنامج يُسمى "المشروع 47". كان الهدف منه تطوير عقار يُضاعف قوة المناعة، لكن الحقيقة أنه عقار تجريبي خطير يسبب آثارًا جانبية كارثية.
الملف كشف أيضًا أن الشركة اختبرت الدواء على مشردين وسجناء دون علمهم، وأن هناك شحنات من العقار في طريقها للانتشار عالميًا.
قال آدم بوجه متجهم:
– "إذا لم نوقفهم الآن، قد يتسبب هذا في كارثة إنسانية."
قررت ليلى أن الحل الوحيد هو نشر القصة كاملة عبر الجريدة، حتى لو كلفها ذلك حياتها.
المواجهة الأخيرة
بينما كانت تجهز المقال للنشر، اقتحم رجال الشركة مقر الجريدة. بدأوا بتفتيش المكان بعنف، لكن ليلى كانت قد جهزت خطة احتياطية. سلمت نسخة من الملف لزميلتها المقرّبة التي بثت الأخبار مباشرة عبر الإنترنت.
في الوقت نفسه، تصدى آدم للمهاجمين بشجاعة، لكنهم كانوا أكثر عددًا. أصيب في كتفه، بينما ساعد ليلى على الهرب. ركضا عبر الأزقة، وصوت صافرات الشرطة يملأ المكان.
وفجأة ظهرت سيارات الشرطة، يقودها رامي بنفسه. لكنه لم يكن هناك لينقذهما، بل ليقضي عليهما. ابتسم بسخرية وهو يقول:
– "كان يجب أن تبتعدي يا ليلى… لكنك اخترتِ أن تلعبي بالنار."
قبل أن يطلق رصاصته، وصل فريق من الصحفيين الذين شاهدوا البث المباشر. احتشد الناس في المكان، وبدأوا يهتفون ضد الشركة وضد الفساد. ارتبك رامي، وحاول التراجع، لكن الكاميرات كانت كلها موجهة نحوه.
النهاية
بفضل نشر القصة في العلن، تحركت السلطات الدولية وفتحت تحقيقًا موسعًا. تم القبض على كبار المسؤولين في شركة نوفا بيوتك، بينما فرّ آخرون إلى الخارج. أما المقدم رامي، فقد انكشف دوره وخسر منصبه وحريته.
أما آدم، فقد تعافى من إصابته، وعاد للعمل كمحقق مستقل، لكن هذه المرة بدعم شعبي كبير.
أما ليلى، فقد أصبحت رمزًا للشجاعة الصحفية. كتبت مقالها الأخير عن القصة بعنوان:
"المدينة التي لا تنام… حين كشفنا الظلام."
كانت تعرف أن الطريق لم ينتهِ بعد، وأن الفساد لن يختفي بسهولة، لكن ما دامت الحقيقة تجد من يحميها، فهناك دائمًا أمل.