الرواية – الجزء الأول
في إحدى القرى الصغيرة التي تتناثر على أطراف المدينة، حيث البيوت الطينية الملتصقة ببعضها، والأزقة الضيقة التي يعرف كل من يسكنها ماضي الآخر وحاضره، عاشت عائلة "الشيخ إبراهيم".
كان الشيخ إبراهيم رجلاً صارماً، لا يعرف المزاح كثيراً، يعيش بعقلية تقليدية ترى أن الأب له الحق المطلق في إدارة البيت بلا اعتراض. أما زوجته "أم عبد الله" فقد كانت امرأة شديدة التعلق بكلمة زوجها، لا ترفض له رأياً، بل تزيد في قسوته أحياناً حتى تُظهر أنها الزوجة المطيعة.
في ذلك البيت وُلد أربعة أبناء: عبد الله (الأكبر)، ثم سامي، وبعده خالد، وأخيراً يوسف.
لكن بين هؤلاء الإخوة جميعاً، كان يوسف – أصغرهم – مختلفاً. وُصف منذ طفولته بأنه "الحبوب" أو "المحبوب"، لما كان يتميز به من طيبة قلب وابتسامة دائمة. لم يعرف الكره لأحد، وكان أكثر من يساعد أمه في شؤون البيت، ويواسي أبيه حين يغضب، ويقف بجوار إخوته عند الشدائد.
غير أن هذه الطيبة لم تُقابل بالحب من الجميع.
بل على العكس، صارت لعنة خفية.
البذرة الأولى للفرقة
كبر عبد الله – الابن الأكبر – على فكرة أنه الوريث الطبيعي لوالده، وأنه الأولى بالاهتمام والتقدير. لكنه وجد في يوسف ما لم يجده في نفسه: حنان، تواضع، وقبول عجيب من أهل القرية. كانوا دائماً يثنون على يوسف أمام والده:
– "ما شاء الله، ابنك يوسف عاقل ورزين رغم صغر سنه."
– "الله يحفظه، دايماً يساعدنا ويخدم من غير مقابل."
هذه الكلمات التي تتكرر كثيراً لم تكن تمر مرور الكرام على مسامع عبد الله. كان يشعر أن مكانته تتضاءل أمام سطوع أخيه الصغير.
أما سامي، فكان يتصف بالغيرة السريعة والانفعال. لا يطيق أن يرى يوسف ينجح أو يلمع أمام الناس. كان يرى أن يوسف يأخذ من حب أبيه وأمه ما لا يستحقه. وفي الحقيقة، لم يكن يوسف يأخذ شيئاً، بل كان يمنح بلا حدود.
أما خالد، فكان أكثر هدوءاً، لكنه كان يتأثر بكلام عبد الله وسامي. يردد ما يقولانه دون أن يتأكد، فيتحول مع الوقت إلى خصم آخر ضد يوسف.
ظلم الأبوين
كان الأب، الشيخ إبراهيم، ينظر إلى أبنائه بعين قاسية. لم يكن يرى في يوسف إلا صبياً ضعيفاً يصلح لخدمة البيت لا غير. لم يعطه الفرصة ليُظهر قدراته، بل دائماً ما يضع ثقته في عبد الله:
– "أنت سندي وذراعي، يا عبد الله."
– "سامي، أنت فخر العيلة."
– "خالد، أنت رجُلي وقت الشدة."
أما يوسف، فكان نصيبه كلمات جارحة:
– "أنت آخر العنقود، ضعيف لا تعتمد عليه."
– "خليك جنب أمك، الباقي عليّ وعلى إخواتك."
حتى الأم، التي كان يوسف أكثر من يخدمها، كانت تميل بغير وعي إلى الكبار، وكأنها ترى في يوسف عبئاً لا قيمة له إلا عندما تحتاج إليه.
بداية الحقد
في المدرسة، كان يوسف متفوقاً. مع أنه لم يحظَ بدعم أبيه مثل إخوته، لكنه درس بجد واجتهاد. حين حصل على المرتبة الأولى في صفه، جاء المعلم ليهنئ والده قائلاً:
– "ابنك يوسف نابغة، سيكون له شأن كبير."
لكن الشيخ إبراهيم لم يبتسم، بل قال ببرود:
– "النجاح الحقيقي لِما يشتغل مع أبوه ويشيل همّ الدار، مش للّي قاعد على الكتب."
تسللت هذه الكلمات إلى قلب يوسف كخنجر بارد. شعر أن تعبه وجهده لا قيمة له. أما عبد الله وسامي فقد وجدا في الموقف فرصة ليزيدا من غيظهما:
– "إيه يعني يا يوسف؟ الأول ولا الأخير، كله واحد."
– "أبوك عارف مين اللي ينفع يعتمد عليه."
شيئاً فشيئاً، تحولت الغيرة إلى حقد. وصارت كل نجاحات يوسف الصغيرة تُقابل بالسخرية.
الحوادث المتتالية
في أحد الأيام، مرضت الأم مرضاً شديداً، واضطر يوسف إلى البقاء بجوارها طوال الليل يسهر على راحتها. وحين تعافت قليلاً، قالت أمام أبيه:
– "لو ما كان يوسف، ما كنت قدرت أقوم."
لكن الأب لم يتحمل أن يرى يوسف يُمدَح أمامه، فقال بعصبية:
– "ده واجبه، مش مِنة منه. وبعدين، إخواته كلهم برّين بيكي، مش يوسف بس."
غضّ يوسف بصره وصمت. لكن إخوته استغلوا كلمات الأب كحجة ليحاصروا يوسف بكرههم.
من الطيبة إلى الوحدة
مع مرور السنوات، صار يوسف أكثر عزلة. لم يعد يجد مكانه بين إخوته، ولا حتى بين والديه. كان يعيش ليلاً في صمت، يحلم بمكان بعيد، حيث لا يوجد ظلم ولا كراهية. كان قلبه يئن لكنه لم يكره أحداً.
أما إخوته، فقد صاروا يفسرون صمته ضعفاً، ويعتبرون ابتسامته استهزاءً بهم.
وذات مرة، بينما كان يوسف في الحقل يساعد والده، وقع موقف غيّر كل شيء.
سقط عبد الله من على الحمار وتعرض لإصابة بسيطة. أسرع يوسف إليه وحمله على كتفيه إلى البيت. لكن حين وصلوا، سبقه عبد الله بشكوى كاذبة:
– "يا أبوي، يوسف هو السبب! ما مسك الحمار عدل، خلاني أقع."
انفجر الأب غضباً وصفع يوسف قائلاً:
– "إنت مش كفاية إنك عديم النفع، كمان تأذي إخوك؟"
لم ينطق يوسف بكلمة. دموعه انسابت بصمت، وابتسامته اختفت لأول مرة.
القرية تلاحظ
أهل القرية الذين اعتادوا رؤية يوسف بشوشاً، لاحظوا تغيره. صار قليل الكلام، يتجنب التجمعات، ويقضي أغلب وقته وحيداً. كانوا يقولون:
– "يا خسارة، الولد الطيب اتغير."
لكن لم يجرؤ أحد على التدخل في شؤون بيت الشيخ إبراهيم.
الشرخ الكبير
مرت السنوات، وكبر الأبناء. عبد الله تزوج مبكراً بفضل دعم والده، وسامي وجد عملاً بمساعدة أبيه، وخالد التحق بأعمال تجارية. أما يوسف، فقد تُرك وحيداً يصارع. لم يمد له أحد يداً، بل كانوا يلومونه إذا فشل:
– "إنت ما تعرف تتحمل مسؤولية."
– "عيب تفضل عالة علينا."
حتى حين حاول يوسف أن يفتح مشروعاً صغيراً من ماله القليل الذي جمعه من عمله في الدروس الخصوصية، تعرض للفشل بسبب مؤامرات غير مباشرة من إخوته الذين كانوا يغارون من أي نجاح له.
الانفجار الصامت
في إحدى الليالي، جلس يوسف تحت شجرة في أطراف القرية. رفع رأسه إلى السماء وهمس:
– "يا رب، لماذا وضعتني بينهم؟ ماذا فعلت لأُعامل هكذا؟"
لم يكن في صوته غضب، بل انكسار. أحس لأول مرة أن قلبه بدأ يتغير. لم يعد ذاك "الحبوب" الذي لا يعرف الكره. بل صار الحزن ينسج خيوطاً سوداء في داخله، وإن حاول إخفاءها بابتسامة باهتة.
النهاية المفتوحة للجزء الأول
عادت خطوات يوسف إلى البيت مثقلاً بالهموم، وعيونه تحكي حكاية ألم طويل. كان يعلم أن القادم أصعب، وأن ما يحمله إخوته من حقد وكراهية لم يصل بعد إلى نهايته.
أما الأب والأم، فكانا يزدادان قسوة عليه، دون أن يدركا أنهما يقتلان شيئاً جميلاً في قلب أصغر أبنائهما.
وهكذا، بقي يوسف يعيش بين جدران بيتٍ يفتقد العدل والرحمة، ينتظر لحظة انفجار أو خلاص.... أكتب تم لتنزيل الجزء الثاني