الرواية – الجزء الثاني
مرت السنوات ببطء على يوسف. لم تعد طفولته البريئة ولا شبابه الحالم قادرين على مداواة الجراح التي حفرتها يد أبيه وأمه، وألسنة إخوته التي لم ترحمه يومًا. كان يعيش في بيتٍ مليء بالأجساد، لكنه يشعر أنه غريب بينهم، وكأن جدران البيت تطرده كلما دخل.
بداية الشرارة
ذات يوم، اجتمع الإخوة الثلاثة مع أبيهم في مجلس العائلة. كان الحديث عن تقسيم أرضٍ صغيرة يملكها الشيخ إبراهيم. رفع عبد الله صوته قائلاً:
– "يا أبوي، الأرض دي حقي قبل الكل، أنا الكبير، وأنا اللي شلت همّك سنين."
وافقه سامي، وأضاف:
– "وأنا برضه، ما قصرت معاك ولا مع البيت. يوسف؟! يوسف لا يستحق شيئًا، ما سوى غير إنه يضيع وقته."
خالد، الذي كان عادة مترددًا، وجد نفسه يكرر كلامهم:
– "فعلاً يا أبوي، يوسف ما ينفع معاه أرض ولا تجارة."
كان يوسف يجلس في زاوية الغرفة، ينظر إليهم بعيونٍ دامعة. لم يتفوه بكلمة، لكنه شعر أن قلبه يُمزق من الداخل.
الأب تنحنح وقال ببرود:
– "اللي قلتموه صحيح. يوسف ضعيف، وما يعرف يدير شيء. الأرض تقسم بينكم أنتم الثلاثة."
كلمة واحدة أنهت كل أمل في قلب يوسف. شعر أن والديه لم يتركوا له حتى حق الانتماء.
مواجهة صامتة
حين خرج يوسف من المجلس، لحقته أمه قائلة بلهجة قاسية:
– "يوسف، لا تزعل. هذي الدنيا، وكل واحد يأخذ نصيبه حسب تعبه. وإنت ما تعبت مثل إخواتك."
وقف يوسف ينظر إليها طويلاً، ثم ابتسم ابتسامة باردة وقال:
– "أمي، أنا تعبت، لكنكم ما أردتم أن تروا."
تركها مذهولة بكلماته، ومضى إلى غرفته. تلك الليلة لم ينم، ظل يفكر:
هل حقًا هو عديم الفائدة؟ هل كل جهوده ذهبت هباءً؟ أم أن الظلم وحده هو من جعل صورته مشوهة في أعينهم؟
بداية الاستقلال
في صباح اليوم التالي، جمع يوسف أغراضه القليلة، وخرج من البيت دون أن يلتفت. قرر أن يترك القرية ويبحث عن حياة أخرى في المدينة.
لم يحاول أحد من إخوته أن يمنعه. بل على العكس، قال عبد الله ساخرًا:
– "أحسن! خلينا نرتاح منك ومن عيونك الباكية."
حتى الأب لم يسأله: "إلى أين؟" وكأن خروجه كان شيئًا منتظرًا.
وصل يوسف إلى المدينة، واستأجر غرفة صغيرة في حي شعبي. بدأ يعمل في مكتبة بسيطة، يساعد الطلاب والقراء. ومع مرور الوقت، اكتشف أن قلبه ما زال قادرًا على العطاء. وجد في زبائنه احترامًا افتقده في بيت والده، وبدأت الثقة تعود إليه شيئًا فشيئًا.
نجاح يوسف
بفضل تفانيه وصدقه، أحب الناس يوسف. توسعت المكتبة وصارت معروفة في الحي. أصبح الأطفال يأتون ليذاكروا عنده، والشباب يستشيرونه في أمور دراستهم.
قال له أحد جيرانه يومًا:
– "يا يوسف، أنت أخٌ للجميع هنا. وجودك فرق كبير."
شعر يوسف أن هذه الكلمات بلسمٌ لقلبه الجريح. هنا، بعيدًا عن أهله، وُجد من يقدره.
سقوط الإخوة
بينما كان يوسف يصعد، كان إخوته يسقطون. عبد الله، الذي أخذ أكبر نصيب من الأرض، دخل في تجارة فاشلة، وخسر معظم ماله. سامي تورط في ديون، وخالد اتبع خطواتهما، حتى صاروا جميعًا غارقين في مشاكل مالية.
أما الأب، فقد كبر سنه، وبدأت صحته تتدهور. والأم، التي طالما تجاهلت يوسف، وجدت نفسها عاجزة عن خدمة زوجها كما كانت تفعل.
في تلك الأوقات العصيبة، لم يجد الإخوة من يقف بجانبهم. الأقارب ابتعدوا، والأصدقاء خذلوهم. لم يبقَ لهم إلا ذكرى يوسف الذي هجروه.
اللقاء من جديد
وذات مساء، وبينما كان يوسف يجلس في مكتبته، دخل رجل عجوز يعرفه منذ الطفولة. جلس أمامه وقال:
– "يوسف، أبوك مريض، وإخوتك في حال يُرثى لها. يحتاجونك."
صمت يوسف طويلاً، ثم أجاب بهدوء:
– "هم لم يحتاجوني يومًا إلا ككبش فداء. لماذا الآن؟"
لكن قلبه الطيب لم يسمح له أن يتجاهل. قرر أن يعود إلى القرية ليرى والده.
لحظة المواجهة
حين دخل يوسف بيت العائلة بعد غياب سنوات، كانت المفاجأة كبيرة. والده على الفراش، ضعيف لا يقوى على الحركة، وأمه تجلس بجانبه، شاحبة الوجه.
الإخوة الثلاثة كانوا في حالة يرثى لها، بملابس قديمة، ووجوه مرهقة.
وقف عبد الله أولاً، ثم سامي وخالد. لم يصدقوا أن يوسف عاد. قال عبد الله بصوت مرتجف:
– "يوسف... سامحنا."
ابتسم يوسف بمرارة:
– "سامحتكم منذ زمن، لكن هل سامحتم أنفسكم؟"
انفجرت دموع الأم وهي تقول:
– "يا بني، ظلمناك كثير. سامحني أنا وأبوك."
اقترب يوسف من والده، أمسك بيده المرتجفة، وقال:
– "يا أبي، كنت قاسيًا عليّ، لكنك أبي رغم كل شيء. لن أتركك."
أغلق الأب عينيه، وانهمرت دموعه بصمت.
بداية التصحيح
منذ ذلك اليوم، تغيرت حياة الجميع. يوسف قرر أن يساعد أسرته رغم كل ما فعلوه به. استقدمهم إلى المدينة، وفتح لهم أبواب المكتبة ليعملوا معه.
لم يكن الأمر سهلاً، فالذكريات المؤلمة كانت حاضرة دائمًا، لكن يوسف كان أقوى.
الإخوة بدأوا يدركون كم كانوا مخطئين. كانوا يظنون أن القوة في المال والوراثة، فاكتشفوا أن القوة الحقيقية في الطيبة والعطاء.
الصراع الداخلي
مع ذلك، لم يختفِ الحقد القديم من قلوبهم تمامًا. أحيانًا كانوا ينظرون إلى يوسف وهم يتساءلون:
– "كيف استطاع أن يصبح أفضل منا جميعًا؟"
لكن يوسف لم يكن يلتفت لهذه النظرات. كان يعيش لرسالته فقط: أن يثبت أن الحب أقوى من الكراهية، وأن الظلم لا يقتل الطيبين بل يجعلهم أكثر صلابة.
النهاية الكبرى
بعد سنوات قليلة، توسعت مكتبة يوسف وأصبحت مركزًا ثقافيًا مشهورًا في المدينة. صار يوسف يُدعى إلى الندوات ليتحدث عن تجربته في الصبر والعطاء.
إخوته وجدوا مكانهم بجانبه، يعملون معه ويعترفون بفضله. أما الأب، فقد رحل عن الدنيا وهو راضٍ عن ابنه الصغير، نادمًا على قسوته. والأم بكت كثيرًا، لكنها وجدت في يوسف السند الذي لم تدرك قيمته إلا متأخرًا.
وفي إحدى الأمسيات، جلس يوسف يكتب رسالة في دفتره:
– "كنت يومًا أخًا منبوذًا، مظلومًا بين أهلي. لكنني لم أسمح للكره أن يقتلني. صبرت، ففتح الله لي أبوابًا لم يتخيلها أحد. تعلمت أن الطيبة ليست ضعفًا، بل هي قوة تعيدك إلى الحياة حتى بعد أن يحاول الجميع دفنك."
أغلق يوسف دفتره، وابتسم. هذه المرة ابتسامة صافية، ابتسامة انتصار الروح على الحقد، والحب على الكراهية.