كانت الليلة باردة بشكل غير طبيعي. الرياح تعصف كأنها تنذر بشيءٍ قادم من العوالم السفلية، والقمر مختبئ خلف سحب سوداء كثيفة لا تكشف سوى خيوطٍ رمادية باهتة من الضوء. لورا لم تستطع النوم منذ أن سمعت كلمات جيمس الأخيرة. فكرة العودة إلى ذلك المكان اللعين كانت كابوسًا في حد ذاتها، لكنها أدركت أنه لا سبيل آخر لإنهاء ما بدأته. الأرواح التي أُطلقت لم تعد تكتفي بالظهور في المرايا، بل بدأت تتسلل إلى أحلامها، تهمس باسمها، وتترك آثار أيديها الباردة على جسدها.
في منتصف الليل، التقت بجيمس أمام المطعم القديم. كان وجهه مرهقًا، عيناه محمرتان من السهر والخوف. يحمل في يده الكتاب الذي أصبح أثقل من أن يُمسك به، كأن الأرواح التي تسكنه تتشبث به خوفًا من العودة. قالت لورا بصوت خافت:
"هل أنت متأكد من هذا؟ ماذا لو كانت تلك الطقوس أسوأ من الأولى؟"
أجابها جيمس بنبرة ثابتة رغم التوتر الذي يسكن صوته:
"لا خيار لدينا، إن لم نكملها الليلة فسيظل الباب مفتوحًا بين العالمين... وسيزداد عدد الأرواح العالقة هنا حتى لا يعود أحد آمنًا."
تحركا بخطوات سريعة نحو الطريق الترابي الذي يؤدي إلى أطلال المنزل. كلما اقتربا، ازدادت رائحة الأرض الرطبة، وبدأت أصوات غريبة تتردد في الهواء، كأن هناك من يهمس في الظلام بلغة ميتة. كانت لورا ترتجف لكنها تابعت السير.
حين وصلا إلى المكان، لاحظا أن بوابة المنزل مفتوحة على مصراعيها رغم أنها كانت مغلقة آخر مرة. الأشجار حول الأطلال مالت بشكل غريب، كأنها تنحني تجاه المركز حيث يقع القبو الملعون. قال جيمس وهو ينظر إلى الأسفل:
"هل تلاحظين؟ حتى الطبيعة تنكمش أمام ما ينتظرنا."
نزلا ببطء إلى الأسفل، وكل خطوة تصدر صدى طويلًا يتردد في الفراغ. عندما وصلا إلى الباب الفولاذي، لم يحتج جيمس إلى فتحه هذه المرة، فقد كان مفتوحًا كأن أحدهم سبقهم. دخل الاثنان والغرفة على حالها تقريبًا، عدا أن المرآة التي رأيا فيها الأرواح المرة الماضية لم تعد في مكانها.
سألت لورا بخوف:
"أين المرآة؟ كانت هنا، تمامًا على هذا الجدار!"
أجابها جيمس وهو يتفحص المكان بعينيه القلقتين:
"ربما لم تكن مجرد مرآة... ربما كانت البوابة نفسها."
وضع الكتاب على الطاولة، وأضاء شمعة صغيرة أخذها معه. بدأ يقلب الصفحات ببطء حتى توقف عند جزء بدا مكتوبًا بحبر مختلف. همس:
"انظري، هذه هي الطقوس العكسية... لكن تنفيذها يحتاج إلى تضحية."
نظرت إليه بعينين مرتجفتين وقالت:
"تضحية؟ تقصد ماذا بالضبط؟"
رد بصوت خافت كأنه يخشى أن يسمعه أحد:
"روح حيّة يجب أن تُقدَّم... لاستعادة التوازن."
تراجعت لورا خطوة إلى الوراء، قلبها يخفق بعنف.
"لا، لا يمكن أن يعني هذا... نحن لا نستطيع قتل أحد!"
ابتسم جيمس بحزن وقال:
"ربما لا حاجة للقتل... ربما يكفي أن يقدم أحدنا نفسه مؤقتًا كجسر بين العالمين. سأفعلها أنا، فأنا السبب في كل هذا."
صرخت لورا وهي تمسك بذراعه:
"لن أسمح لك! هناك طريقة أخرى، لا بد أن هناك طريقة أخرى!"
لكن صوت الرياح في الخارج اشتد فجأة، تبعته صرخة مدوية من داخل الجدران نفسها. انطفأت الشمعة، وغرقت الغرفة في ظلام دامس. أضاء جيمس هاتفه بسرعة، ليجدا رموزًا جديدة قد ظهرت على الأرض، محفورة كأنها نُقشت في لحظتها. كانت على شكل دائرة تحيط بالطاولة التي وضع عليها الكتاب.
قالت لورا بصوت يرتجف:
"هذه الرموز... لم تكن هنا من قبل!"
أجابها جيمس بعيون واسعة:
"إنهم يعلمون أننا هنا، لقد بدأوا الطقس بأنفسهم!"
فجأة، انبعث ضوء أحمر قوي من مركز الدائرة، وبدأت أشكال دخانية تظهر في الأركان الأربعة للغرفة. كانت أجسادًا بشرية بلا وجوه، تتحرك ببطء نحوهم. ارتجفت لورا بينما جمد جيمس مكانه وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة من الكتاب.
ارتفعت الأصوات أكثر، حتى صارت كأنها صرخات جماعية. عندها سقط الكتاب من يده وانفتح تلقائيًا على صفحة مليئة بالحروف المنقوشة بالدم. على تلك الصفحة كانت هناك جملة مكتوبة بخطٍ واضح: "من استدعى الأرواح، عليه أن يسلم نفسه لها، أو تبقى حرة إلى الأبد."
نظرت لورا إلى جيمس والدموع في عينيها، وقالت:
"لا تفعل هذا، أرجوك، سنجد طريقة أخرى."
لكن جيمس كان قد اتخذ قراره. نظر إليها بابتسامة حزينة وقال:
"لقد كانت مغامرة غبية... لكني لن أسمح لك بأن تدفعي ثمنها."
دخل إلى داخل الدائرة وبدأ يقرأ التعويذة بصوت مرتفع. كل كلمة كانت تُحدث ارتجاجًا في الغرفة، وكلما أكمل سطرًا، كانت الأرواح تقترب أكثر، وأجسادها تتحول إلى دخان أسود كثيف يلتف حوله.
صرخت لورا باسمه، لكن الصوت لم يخرج من حلقها، كأن الهواء تجمد. ثم، وفي لحظة خاطفة، ارتفع جيمس في الهواء، عيناه متوهجتان باللون الأحمر، وصوته تحوّل إلى صدى كأنه يُنطق من ألف فم. الغرفة امتلأت بضوء أبيض ساطع، جعل لورا تغمض عينيها بقوة.
حين فتحت عينيها، كان كل شيء قد اختفى. الأرضية مغطاة بالغبار، الطاولة محطمة، والكتاب مفقود. لم يكن هناك أثر لجيمس.
صرخت تناديه، لكن الصدى كان هو الوحيد الذي يجيب. جلست على الأرض تبكي، وهي تدرك أنه ضحى بنفسه لإغلاق البوابة.
مرت ساعات قبل أن تتمكن من الوقوف، خرجت من القبو بخطوات متعثرة. كانت السماء قد بدأت تشرق بخيوط الصباح، والهدوء يغطي المكان. شعرت لوهلة أن كل شيء انتهى، لكن قلبها كان يخبرها أن الأمر لم ينته بعد.
في الأيام التالية، حاولت العودة إلى حياتها الطبيعية. توقفت عن العمل في المطعم، وانتقلت إلى شقة صغيرة في وسط المدينة. لكنها لم تتوقف عن الشعور بشيء يراقبها. في كل مرة تنظر إلى المرآة، ترى ظلًا خلفها للحظة ثم يختفي. أحيانًا تسمع صوت جيمس يهمس باسمها في منتصف الليل.
ذات مساء، وبينما كانت تجلس على مكتبها، سمعت طرقًا خفيفًا على الباب. عندما فتحته، لم تجد أحدًا، لكن عند عتبة الباب كان هناك طرد صغير مغلف بورق بني. حملته بحذر، فتحته لتجد داخله الكتاب القديم نفسه، بغطائه الجلدي الأسود.
شعرت بالدم يترك وجهها، ويديها ترتجفان. لم تكن هناك أي علامة تُظهر من أرسله. قلبت أول صفحة، فوجدت سطرًا مكتوبًا بخط جيمس:
"لم أغب... أنا هنا، بين الصفحات."
ألقت الكتاب على الأرض وهي تصرخ، لكن الغرفة امتلأت فجأة برائحة الرماد، والأضواء بدأت تومض بعنف. ارتفعت صفحات الكتاب بنفسها، وبدأت تتقلب بسرعة كأن يدًا غير مرئية تعبث بها.
ثم توقفت الصفحات على مقطع جديد، لم تره من قبل. كان العنوان: "استدعاء الروح الضائعة". وتحت العنوان، تعليمات طقس جديد، يتطلب قارئًا واحدًا، ودمًا من الشخص المرتبط بالروح المستهدفة.
وقفت لورا مذهولة، ثم بدأت دموعها تنهمر. أدركت أن جيمس لم يمت، بل أصبح عالقًا بين العالمين، يحتاج إلى من يعيده. قاومت خوفها، أمسكت بسكين المطبخ، وقطعت إصبعها برفق حتى سالت بضع قطرات من الدم على الصفحة.
في اللحظة نفسها، تحرك الكتاب وحده، وارتسمت الرموز من جديد على الأرض. انطفأت الأنوار، وساد الظلام الكامل. شعرت بيد باردة تلمس كتفها، وصوت مألوف يهمس في أذنها:
"لم يكن عليك أن تعودي، يا لورا."
صرخت وهي تتراجع للخلف، لكن يدًا أخرى أمسكت بمعصمها بشدة. كان جيمس، أو بالأحرى... ما يشبهه. وجهه نصفه إنساني ونصفه ظل. قال بصوتٍ متداخل بين الألم والغضب:
"لقد أغلقت البوابة... لكنهم لم يسمحوا لي بالمغادرة. أنت فتحتها من جديد!"
حاولت التملص من قبضته وهي تصرخ:
"كنت أريد إنقاذك!"
رد وهو يقترب أكثر، عيونه المتوهجة تثبت في عينيها:
"الإنقاذ مستحيل الآن... علينا أن نغلقها للأبد، لكن هذه المرة، لن تكفي روح واحدة."
لم تفهم لورا ما يقصده إلا حين شعرت بأن الظلال بدأت تلتف حولهما معًا. كان جيمس يردد تعويذة أخيرة بلغة لا تُفهم، وكلما نطق بكلمة، كانت لورا تشعر بأن قوتها تخور وأن الأرض تسحبها إلى الأسفل. حاولت الصراخ، لكن الهواء صار ثقيلًا، والأصوات تلاشت.
ثم جاء الضوء... ضوء أبيض ناصع غمر كل شيء. صمتٌ مطلق تلاه.
عندما استيقظت لورا، كانت مستلقية في وسط الغرفة، وكل شيء حولها يبدو طبيعيًا. لا رموز، لا كتاب، لا ظل. لكن حين نظرت إلى المرآة المقابلة، رأت جيمس يقف خلفها مبتسمًا. التفتت بسرعة، فلم تجد أحدًا.
مرت أسابيع بعدها، وعادت الحياة في المدينة إلى طبيعتها. لم يعد أحد يتحدث عن الأصوات الغريبة أو الأضواء في الأطلال. لكن لورا لم تعد كما كانت. كلما نظرت إلى انعكاسها، رأت وجهًا آخر خلفها، وسمعت الهمس ذاته يتردد في أذنها.
وفي إحدى الليالي، بينما كانت تغلق الستائر، لاحظت شيئًا غريبًا. على معصمها، نفس الرموز التي كانت محفورة في الأرض يوم الطقوس، وقد بدأت تتوهج بخفوتٍ في الظلام. فهمت حينها الحقيقة المرعبة... أن الأرواح لم تُغلق البوابة، بل اختارت جسدها كمنزلٍ جديد.
ابتسمت بخفوت، وكأنها استسلمت. ثم نظرت إلى المرآة وقالت بصوت خافت:
"حسنًا... يبدو أن أرض المقابر لم تنتهِ بعد."
انطفأت الأنوار فجأة، وعمّ الظلام التام، لتُسمع في الأرجاء همسات غريبة، وصوت ضحكة مألوفة يختفي مع الريح...
أقراء الجزء الأول : أرض المقابر والتعاويذ – البداية الملعونة
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.