قصة الكاتب الذي مات ولم يكتب
في إحدى المدن القديمة، حيث الأزقة الضيقة تعبق برائحة التاريخ، عاش رجل يُدعى "سليم العاصي". كان معروفًا بين أهل الحي بذكائه الحاد، وموهبته في صياغة الكلمات منذ نعومة أظفاره. لم يكن سليم كاتبًا عاديًا، بل كان يُقال إن كل جملة يخطها تحمل روحًا تتنفس، حتى أن البعض كانوا يصفونه بأنه قادر على تحويل الورق إلى حياة نابضة. لكنه، ولأسباب كثيرة، لم يُخرج للعالم أي كتاب، رغم أن حلمه الأكبر كان أن يُصبح من أعظم الكُتّاب في عصره.
كبر سليم وهو يعيش بين الكتب، يقرأ بنهمٍ كل ما تقع عليه يداه، من روايات خالدة إلى دواوين شعر، ومن كتب الفلسفة إلى قصص التاريخ. كان يملك مكتبة صغيرة في غرفته، تضج بالكتب من الأرض حتى السقف. وعندما كان يُسأل: "متى ستكتب كتابك الأول؟"، كان يبتسم ويقول: "قريبًا جدًا، فأنا أُحضّر لشيء عظيم".
لكن ذلك "القريب" امتد لسنوات، ثم عقود. كان سليم ينتظر "الوقت المثالي"، اللحظة التي يكتمل فيها نضجه، ويتجمع فيها إلهامه دفعة واحدة ليكتب العمل الذي يهز الدنيا. غير أن الأيام لم تنتظره، فقد كانت تمضي بسرعة تفوق توقعاته.
في شبابه، كان يلوم نفسه قائلاً: "لا بأس، ما زلت صغيرًا، أحتاج المزيد من التجربة". وعندما بلغ منتصف عمره، قال: "الآن بدأت أفهم الحياة أكثر، لكنني بحاجة لبعض الصقل قبل أن أضع فكرتي على الورق". وحين وصل إلى شيخوخته، كان لا يزال يردد: "قريبًا جدًا سأكتب، عندما أرتب أفكاري جيدًا".
كان كل يوم يمر، يحمل معه فرصة جديدة، لكنه كان يؤجلها إلى الغد. ومع مرور الوقت، أصبحت حياته سلسلة من التسويف، حتى صار بينه وبين القلم جدارًا خفيًا من الخوف. خوف من أن يكتب فلا يكون عمله بالمستوى الذي يحلم به.
في أحد الأيام، جلس سليم في مقهى قديم يطل على ساحة مزدحمة بالناس. كان يحمل دفترًا فارغًا وقلمًا جافًا. فتح الدفتر، نظر إلى بياض الصفحات، ثم أغلقه من جديد. كان يشعر بأن عقله ممتلئ بالأفكار، لكن يده ثقيلة، وكأنها تُقاوم الكتابة. وبينما هو في شروده، جلس بجواره شاب صغير يحمل كتابًا جديدًا. تبادلا الحديث، وسأله سليم:
– ما الذي تقرأه؟
– إنه رواية حديثة لكاتب شاب. صدقني يا سيدي، لقد أحدثت ضجة كبيرة في الوسط الأدبي.
ابتسم سليم بمرارة وقال: "شاب؟ كم عمره؟"
– لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
صمت سليم، وشعر وكأن خنجرًا غُرس في قلبه. هذا الكاتب الشاب بدأ من حيث كان هو يحلم أن يبدأ، لكنه لم يكتب شيئًا حتى الآن.
مرت الأيام، وبدأت صحته تضعف. أصبح ملازمًا لفراشه، وأصدقاؤه يزورونه بين حين وآخر. كانوا يقولون له: "يا سليم، قبل أن يرحل عمرك، ضع ما في قلبك على الورق. دعنا نقرأ شيئًا من روحك". لكنه كان يرد دائمًا: "قريبًا... قريبًا جدًا".
ذات ليلة، بينما كان المطر ينهمر بغزارة على نافذته، شعر سليم أن قلبه يثقل أكثر من أي وقت مضى. تذكر عمره كله، تذكر الدفاتر الفارغة، تذكر الوعود التي قطعها لنفسه ولم يوفِ بها. حاول أن ينهض ليكتب جملة واحدة، أي جملة، لكنه سقط على الأرض.
رحل سليم في صمت، ودفن في مقبرة المدينة. وعندما دخل أقاربه غرفته لترتيب أغراضه، وجدوا عشرات الدفاتر الجديدة لم تُفتح قط. أوراق بيضاء ناصعة تنتظر الكلمات التي لم تأتِ أبدًا. وقف الجميع في صمت، والدموع في أعينهم. كانوا يعلمون أنه كان كاتبًا عظيمًا لم يكتب.
انتشر خبر موته في المدينة، وأصبح الناس يتحدثون عنه: "لقد كان يملك القدرة، لكنه لم يفعل شيئًا". تحوّل سليم إلى مثلٍ يُضرب لكل من يُؤجل أحلامه بانتظار اللحظة المثالية.
مرت سنوات، وبقيت قصته تُروى جيلاً بعد جيل. صار الناس يقولون لأولادهم: "لا تكونوا مثل سليم، فقد مات ولم يكتب". كانت العبرة التي خلفها أقوى من أي كتاب كان يمكن أن يكتبه، لكنها لم تكن العبرة التي تمنى أن يتركها.
كان من الممكن أن يخطئ ويكتب شيئًا عاديًا، أو رواية بسيطة، لكنه على الأقل كان سيترك أثرًا. غير أن خوفه من الفشل سرق منه كل شيء. وهكذا، أصبح موته درسًا قاسيًا: أن أسوأ فشل هو ألا تُحاول أبدًا.
في النهاية، أدرك الناس أن القيمة ليست في الكمال، بل في المحاولة. وأن الكتابة، مثل الحياة، لا تنتظر اللحظة المناسبة، بل تُخلق من الجرأة على البدء، حتى وإن لم يكن الطريق واضحًا تمامًا.
وهكذا خلد التاريخ اسم "الكاتب الذي مات ولم يكتب"، لا لأنه كتب، بل لأنه لم يكتب. كانت قصته جرس إنذار لكل من يعتقد أن الغد سيأتي أفضل من اليوم، ولكل من يضع حلمه في درج الانتظار.
العبرة أن التسويف عدو الأحلام، وأن الكمال سراب يسرق العمر. الكتابة، مثل كل حلم في الحياة، تبدأ بخطوة واحدة. فالأعظم ليس من ينتظر اللحظة المثالية، بل من يجرؤ على البدء رغم كل النواقص.
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.