في مساءٍ هادئ من أمسيات الخريف، كانت السماء ملبّدة بغيومٍ رمادية، والهواء يحمل شيئًا من البرودة، كأنّ الطبيعة نفسها كانت تتهيأ لحكايةٍ حزينة. في ذلك المساء، جلس "يوسف" على مقعدٍ خشبي في حديقة صغيرة تطل على النيل، ينظر إلى صفحة الماء الساكنة، بينما تتلاعب أنامله بسيجارةٍ انطفأت منذ دقائق. لم يكن في وجهه ما يدل على أنه يعيش لحظة سلام، بل كان الحزن مسكنًا في عينيه كما يسكن الليل المدن النائمة.
كان يوسف في أواخر العشرينات، شابًا مجتهدًا، بسيطًا في مظهره، عميقًا في تفكيره، يعيش من أجل أحلامٍ رسمها بعناية في قلبه، لكن بين كل تلك الأحلام، كانت "ندى" الحلم الأجمل والأقرب إلى قلبه.
تعرف يوسف على ندى قبل ثلاث سنوات، في معرضٍ للفن التشكيلي أقامه صديقه الجامعي. كانت ندى فتاة مختلفة عن الأخريات، تمتلك حضورًا طاغيًا، وابتسامة تشبه النور في صباحٍ غائم. وقفت أمام لوحةٍ رسمها يوسف بنفسه — لوحةٌ تجسد امرأة تنظر إلى الأفق بعينٍ دامعة — وقالت له:
"هذه اللوحة حزينة... لكنها صادقة."
لم يكن يعلم أن تلك الجملة ستكون بداية قصةٍ ستملأ حياته ضوءًا ودموعًا في الوقت نفسه.
منذ تلك اللحظة، بدأت علاقة يوسف وندى تنمو ببطءٍ يشبه نموّ الورد في الشتاء. كانا يتحدثان يوميًا، يتبادلان الأحلام، ويكتبان لبعضهما رسائل طويلة على الهاتف تتحدث عن المستقبل، عن بيتٍ صغير على ضفاف النيل، عن طفلٍ يشبهها في عينيه ويشبهه في ابتسامته.
كانت ندى طالبة في كلية الإعلام، طموحة جدًا، تحلم بأن تكون مذيعة شهيرة. وكان يوسف يعمل مصممًا في وكالة دعاية صغيرة، لكنه كان يحلم بأن يفتح يومًا ما شركته الخاصة ليصنع اسمه بجهده. كانت العلاقة بينهما تقوم على التشجيع، والإصرار، والإيمان المتبادل بأنهما يستطيعان أن يتغلبا على كل شيء طالما كانا معًا.
مرت الأيام، واشتد تعلق يوسف بندى، حتى صار وجودها بالنسبة له هو الهواء الذي يتنفسه. كان يسهر الليالي ليكتب لها، ويعمل بجهدٍ مضاعف ليحقق أحلامه حتى يشعر أنه يستحقها. أما هي، فكانت دائمًا ترد بكلماتٍ حنونة:
"أنا فخورة بك يا يوسف... وسأظل معك حتى النهاية."
كانت كلمتها تلك تملؤه يقينًا وسعادة، ولم يخطر بباله يومًا أن النهاية قد تأتي بطريقة مختلفة تمامًا.
مرت السنوات الثلاث سريعًا، وبدأ يوسف يخطط لخطبتها رسميًا بعد أن استقر في عمله وأصبح لديه بعض المال. تحدث مع والديه، وذهب بنفسه إلى منزلها ليطلب يدها، وكان وجهه يضيء بالفرح وهو يقدم خاتم الخطوبة أمامها.
لكن ندى حينها ترددت قليلًا، وقالت له بابتسامةٍ مصطنعة:
"يوسف... أنا لست جاهزة الآن للزواج، أريد أن أثبت نفسي أولاً في عملي. الزواج الآن سيقيدني."
تفهّم يوسف موقفها، فقد كان يثق بها ثقةً عمياء، وقال لها:
"أنا معك يا ندى، خذي وقتك، أنا لا أريد أن أكون قيدًا، بل سندًا لك."
ابتسمت، وقبلت يده بحب، لكن شيئًا في تلك اللحظة كان غامضًا... نظرة في عينيها لم يلاحظها يوسف، لكنها كانت أول شرخٍ في جدار تلك العلاقة.
مرت الأشهر، وبدأت ندى تتغير.
كانت في السابق تتصل به كل صباح، لكنها صارت تنسى. كانت تكتب له رسائل طويلة، لكنها أصبحت تكتفي بجملةٍ مقتضبة: "مشغولة اليوم يا يوسف".
في البداية، لم يُعر ذلك اهتمامًا، ظنّ أنها مجرد ضغوط العمل، لكن مع الوقت بدأ يشعر بشيءٍ داخلي يختنق.
صار يوسف ينتظر اتصالها عبثًا، ويقضي الليالي يفكر: "هل تغيرت؟ هل ما زالت تحبني كما كانت؟"
وفي كل مرة يحاول أن يواجهها، كانت تضحك بخفة وتقول:
"يوسف، أنت تبالغ! أنا فقط مشغولة."
لكن قلبه كان يقول شيئًا آخر.
في أحد الأيام، قرر يوسف أن يفاجئها في مقر عملها الجديد في إحدى القنوات الخاصة. أحضر لها باقة من الورود الحمراء، وذهب دون أن يخبرها.وقف أمام المبنى، قلبه يخفق كطفلٍ يذهب ليرى محبوبته بعد فراقٍ طويل. دخل إلى الاستقبال وسأل الموظفة عنها، فأخبرته أنها في استراحة الطابق الثالث.
صعد يوسف بخطواتٍ متسارعة، يحمل الورد ويبتسم لنفسه، كأنه يعيش مشهدًا من فيلمٍ رومانسي.
لكن حين وصل إلى الطابق الثالث، رأى ما لم يكن يتخيله أبدًا.
كانت ندى تجلس على أريكةٍ جانبية في المقهى الداخلي للقناة، أمامها شاب أنيق، يضحكان سويًا، ويده تلامس يدها برقةٍ ظاهرة.
وقف يوسف لثوانٍ لا يتحرك، شعر أن الهواء من حوله توقف، وأن الأرض تهتز تحته.
كانت تلك اللحظة كصفعةٍ على وجهه، لم يكن يريد أن يصدق ما يراه، لكنه لم يستطع إنكار الحقيقة.
اقترب ببطء، وضع باقة الورد على الطاولة أمامهما، وقال بصوتٍ مبحوح:
"تبدين سعيدة يا ندى... لم أرك تبتسمين هكذا منذ فترة."
ارتبكت، حاولت أن تتكلم، لكن كلماتها خرجت متقطعة:
"يوسف... الأمر ليس كما تظن."
أما الشاب فوقف بثقة وقال:
"أظن أن الحديث بينكما شخصي، سأترككما."
خرج الشاب بهدوء، وبقي يوسف ينظر إلى ندى بعينين امتلأتا بخيبةٍ عميقة.
"من هو؟" سألها بصوتٍ خافت.
فأجابت وهي تنظر للأسفل:
"زميلي... فقط زميلي."
ابتسم يوسف بمرارة:
"زميل يمسك يدك أمام الناس؟ هذا هو العمل الذي كنتِ مشغولة به؟"
بكت ندى، وحاولت تبرير الموقف، لكن يوسف لم يكن بحاجة إلى تبريرات. كان يرى كل شيء في عينيها، في تلك النظرة التي فقدت دفئها، وفي تلك الكلمات التي لم تعد تعرف طريقها إلى الصدق.
مرّت أيام بعد تلك الحادثة، حاول يوسف الابتعاد عنها، لكنه كان يحبها لدرجةٍ جعلت الألم يقتله كل يوم.وفي أحد الليالي، قرر أن يكتب لها رسالة أخيرة:
"ندى،
كنتِ لي الحلم الأجمل، والخذلان الأوجع.
لم أطلب منك الكمال، فقط الوفاء.
لا أعرف متى تحولتِ إلى غريبة، ولا متى أصبح حبنا عبئًا عليك.
لكني أعلم أني أحببتك بصدق، أكثر مما يستحق بشر.
سأغيب عنك، لا لأنني أكرهك، بل لأنني أريد أن أشفى منك."
أرسل الرسالة، وأغلق هاتفه، وغاب عن الجميع أيامًا.
أما ندى، فقد قرأت الرسالة عشرات المرات، وشعرت لأول مرة بالفراغ. كانت تظن أنها ستحيا حياة أفضل مع الشاب الجديد، لكن بريق البداية خبا سريعًا، حين اكتشفت أنه لم يحبها بصدق كما فعل يوسف.أصبحت تحنّ إليه، تبحث عن كلماته، عن ضحكته، عن رسائله القديمة. حاولت الاتصال به مرات عديدة، لكنه لم يرد.
بعد أسابيع، ذهبت إلى المكان الذي كانا يجلسان فيه دائمًا بجانب النيل، فوجدت المقعد خاليًا، وفوقه وردة ذابلة، وكأنها كانت تنتظرها هناك. جلست تبكي بصمت، وهي تردد:
"يا ليتني لم أخنك... يا ليتني احتفظت بمن أحبني حقًا."
لكن يوسف لم يعد كما كان.
الحب حين يُكسر، لا يُرمم بسهولة.
جلس ذات مساء في المكان نفسه الذي بدأ فيه كل شيء، ونظر إلى النيل مجددًا، وقال بصوتٍ خافت:
"كنتِ لي الدرس الأهم... أن لا أُعطي قلبي لمن لا يعرف قيمته."
ابتسم ابتسامة حزينة، ثم نهض، وكأنه يودّع ماضيه.
ترك المكان بخطواتٍ واثقة، بينما كانت الريح تعصف بوردةٍ سقطت من جيبه إلى النهر، تبتعد ببطء كما ابتعدت هي من حياته.
وحين سُئل ذات مرة في مقابلة تلفزيونية عن سرّ تلك اللوحة، ابتسم وقال:
"إنها تمثل الحنين... والخذلان الجميل الذي يجعلنا نكبر."
ثم صمت قليلًا، وكأنه يرى في خياله وجه ندى يختفي مع الغروب، وهمس في نفسه:
"وداعًا يا من علمتني أن الحب لا يكفي إن لم يكن صادقًا."
تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.