في يوم من الأيام، كان هناك شاب يُدعى سامي، يعيش في قرية صغيرة محاطة بالجبال الشاهقة والوديان الخضراء الممتدة إلى ما لا نهاية. كانت القرية هادئة، يغمرها صوت العصافير صباحًا ورائحة أزهار البراري التي تعبق في الأجواء. لكن حياة سامي لم تكن بتلك البساطة ولا الجمال الذي يحيط به. فمنذ صغره، لاحقه ظل ثقيل يصفه الناس بالنحس، وكأنه لعنة لا تنفك عنه. لم يكن سامي يؤمن بالخرافات، لكنه لم يستطع أن ينكر أن حياته سلسلة طويلة من المصائب التي لا تنتهي.
بدأت معاناته مبكرًا عندما فقد والديه في حادث سيارة مأساوي وهو في سن العاشرة. كان ذلك اليوم كالصاعقة التي هزّت حياته بالكامل. جلس صغيرًا على عتبة البيت، ينظر إلى الناس وهم يتهامسون: "هذا الولد منحوس، لا بد أن شيئًا ما غريب يلازمه". كلماتهم لم تكن تمر مرور الكرام، بل كانت تترسخ في قلبه الصغير. عاش سامي بعدها يتيمًا تحت رعاية عمته التي كانت تحاول منحه الحب والاهتمام، لكنها كانت امرأة صارمة لا تعرف التعبير عن المشاعر بسهولة. ومع مرور السنوات، كبر سامي وهو يشعر أن القدر يقسو عليه أكثر مما يحتمل.
في المدرسة، كان يواجه دائمًا حوادث غريبة. مرة انكسر كرسيه فجأة وهو يجلس أمام المعلمة، وأخرى سقط سقف الصف من فوق رأسه، لكنه نجا بأعجوبة بينما أصيب زملاؤه بخدوش بسيطة. بدأ الطلاب يبتعدون عنه، لا يريدون الاقتراب منه خوفًا من أن يصيبهم "نحسه". كان سامي يحاول أن يتجاهل كل ذلك، لكنه في داخله كان يتألم. لم يكن يريد سوى حياة عادية، حياة مليئة بالسلام مثل الآخرين.
مرت السنوات، وأصبح سامي شابًا في مقتبل العمر. كان طويل القامة، بملامح هادئة وعيون عميقة تخفي وراءها قصصًا من الألم. لم يكن اجتماعيًا جدًا، لكنه كان يملك صديقًا واحدًا مخلصًا اسمه عمر. كان عمر مختلفًا عن باقي أهل القرية، لم يؤمن يومًا بالخرافات، وكان يرى في سامي شخصًا قويًا يستحق أن يُمنح فرصة حقيقية للحياة. كان دائمًا يحاول أن يرفع من معنوياته، ويقول له: "النحس ليس إلا وهم، نحن من نصنع حظنا بأيدينا".
في أحد الأيام، اقترح عمر على سامي أن يذهبا معًا في رحلة تخييم إلى الجبال. كان يرى أن الطبيعة قادرة على شفاء الأرواح، وأن هذه الرحلة قد تساعد سامي على التخلص من كل تلك الأفكار السوداوية. تردد سامي في البداية، فقد كان يخشى أن يصيبه شيء سيئ كما اعتاد، لكن إصرار عمر جعله يوافق في النهاية. حمل الاثنان حقائبهم المليئة بالمؤن والمعدات، وانطلقا نحو الجبال التي لطالما نظر إليها سامي من بعيد بشغف وخوف في آن واحد.
الطريق لم يكن سهلًا. عبرا الغابات الكثيفة حيث تتشابك الأغصان وتغطي السماء، ومرّا عبر الجداول الصغيرة التي تعكس ضوء الشمس كأنها ألماس سائل. كان عمر يتحدث بلا توقف، يحكي قصصًا مضحكة عن أيام المدرسة، بينما سامي يكتفي بالابتسام بصمت. في أعماقه، كان يشعر براحة غريبة لم يعهدها من قبل. ربما لأن الغابة ببراءتها لم تحكم عليه كما فعل الناس.
بعد ساعات طويلة من السير، وصلا أخيرًا إلى قمة جبل شاهق. كان المنظر يخطف الأنفاس: السحب تتراقص تحت أقدامهما، والهواء النقي يملأ رئتيهما. شعرا وكأنهما في عالم آخر بعيد عن كل الهموم. بدأا بإعداد الخيمة، لكن فجأة تبدلت السماء. تجمعت الغيوم بسرعة غير طبيعية، وبدأت الرياح تعصف بشدة، وكأن العاصفة قررت أن تهاجم المكان بأكمله.
حاول عمر تثبيت الخيمة بينما كان سامي يجمع الأخشاب لإشعال النار. وفجأة، اخترق البرق السماء بضوء مبهر وسقط قريبًا منهم، فأشعل النيران في طرف الخيمة. ارتبكا بشدة، وحاولا إطفاء النار لكن الرياح كانت تزيدها اشتعالًا. أخذت الخيمة تتمايل وكأنها ستطير، والبرق يضرب في كل اتجاه. كان المشهد مرعبًا، وكأن الطبيعة أعلنت حربًا ضدهما.
وسط الفوضى، وقع عمر أرضًا بعد أن انزلقت قدمه، فأسرع سامي لمساعدته، ساحبًا إياه بعيدًا عن النيران. ورغم الرعب الذي يعيشه، لم يتراجع للحظة. كانت غريزة البقاء هي التي تحركه. وبعد دقائق طويلة بدت كساعات، نجح الاثنان في الهروب من موقع الخيمة والاحتماء بين الصخور. كان جسدهما يرتجف من البرد والخوف، لكنهما كانا على قيد الحياة.
حين توقف المطر قليلًا وهدأت العاصفة، رفع سامي رأسه إلى السماء. وهناك، وسط الغيوم المتناثرة وبقايا المطر، ظهر قوس قزح بديع يلون الأفق. ظل ينظر إليه وكأنه يراه لأول مرة في حياته. كان المشهد يبعث الطمأنينة في قلبه بطريقة لم يفهمها. في تلك اللحظة، شعر وكأن رسالة خفية وصلت إليه: أن بعد كل عاصفة يولد الجمال، وأن الحياة لا تمنحنا فقط الألم، بل تمنحنا أيضًا لحظات تستحق أن نعيش من أجلها.
منذ ذلك اليوم، تغير سامي. لم يعد ينظر إلى نفسه على أنه منحوس، بل على أنه ناجٍ. كان يقول لنفسه: "إذا استطعت أن أخرج حيًا من وسط العاصفة، فأنا قادر على مواجهة أي شيء آخر". بدأ يواجه حياته بثقة أكبر، يتقدم بخطوات واثقة نحو أحلامه. لم يعد يخشى كلام الناس ولا يترك خوفه يسيطر عليه.
لكن القصة لم تنتهِ هنا. فبعد عودته إلى القرية، بدأ سامي يلاحظ أن الناس ما زالوا ينظرون إليه بنفس الطريقة القديمة. بعضهم يبتسم في وجهه، لكن في أعينهم لمحة خوف دفين. قرر سامي أن يثبت للجميع أن حياته ليست سلسلة نحس، بل هي قصة نهوض من تحت الركام. التحق بدورات في النجارة والزراعة، وأصبح يساعد أهل القرية في إصلاح منازلهم وأدواتهم. شيئًا فشيئًا، بدأ الناس يغيرون نظرتهم له. لم يعد ذلك الشاب المنحوس، بل أصبح اليد الممدودة التي تنقذ الآخرين عند الحاجة.
كان عمر دائمًا بجانبه، يشجعه ويدعمه. وفي إحدى الليالي جلس الاثنان تحت ضوء القمر، فقال عمر: "أتعرف يا سامي؟ ما حدث في الجبل لم يكن مجرد مصادفة. لقد ولدت من جديد هناك، وتركت نحسك خلفك". ابتسم سامي بهدوء، وأجاب: "ربما لم يكن نحسًا من البداية، ربما كنت بحاجة فقط إلى أن أرى قوس قزح الخاص بي".
مرت السنوات، وأصبح سامي رمزًا للقوة في قريته. لم يكن يملك الكثير من المال، لكنه كان يملك قلبًا كبيرًا وعزيمة لا تنكسر. كان الأطفال يجلسون حوله ليستمعوا إلى قصصه عن الجبال والعواصف، وكيف يمكن للإنسان أن يجد النور حتى في أحلك الأوقات. كان يخبرهم دائمًا: "الحياة ليست سهلة، لكنها مليئة بالمعجزات الصغيرة. كل ما عليكم هو أن تصبروا حتى يظهر قوس قزحكم".
وهكذا، تحولت حياة سامي من حكاية نحس إلى أسطورة إلهام. صار الجميع يردد اسمه كقدوة، والشاب الذي تحدى القدر وأثبت أن القوة الحقيقية تنبع من الداخل. وفي أعماق قلبه، كان سامي يعرف أن ذلك اليوم على الجبل لم يغير فقط مسار حياته، بل أعاد له إيمانه بأن الغد قد يحمل دومًا ما هو أجمل، حتى لو كنا نقف في قلب العاصفة.