قصة الصداقة بين البصير والأعمى: دروس ملهمة عن البصيرة والقوة الداخلية

كان في إحدى القرى البعيدة المخبأة بين الجبال والوديان شخصان يبدوان وكأن القدر جمعهما ليكتمل كل منهما بالآخر. الأول شاب بصير اسمه سامر، امتاز بحدة ذكائه وقوة فطنته، فكان مستشارًا لأهالي القرية ومرجعًا لهم في كل ما يخص مشكلات حياتهم اليومية، بل وحتى خلافاتهم الصغيرة. كان سامر معروفًا بابتسامته الهادئة وصوته المطمئن الذي يزرع الطمأنينة في القلوب. أما الثاني فكان رجلاً مسنًا يُدعى يونس، فقد بصره منذ سنوات طويلة، لكنه ظل متمسكًا بالحياة بروح طيبة وإيمان عميق. كان يعيش على مهنة بسيطة، حيث يفرش السجاد في سوق القرية ويجلس منتظرًا من يحتاج إلى بضائعه أو من يرغب في الاستماع إلى قصصه القديمة.

قصة الصداقة بين البصير والأعمى: دروس ملهمة عن البصيرة والقوة الداخلية

على الرغم من التناقض بينهما في السن والقدرات، إلا أن علاقة صداقة قوية ربطت بين سامر ويونس. كان سامر كثيرًا ما يزور صديقه، يجلس معه على عتبة دكانه الصغير، يحدثه عن أحوال القرية والناس، يصف له المناظر الطبيعية التي يعجز يونس عن رؤيتها، فيرسم بكلماته صورًا تبقى في ذهن صديقه وكأنها لوحات نابضة بالحياة. في المقابل، كان يونس يقدم لسامر حكمة رجل عاش طويلاً واختبر قسوة الأيام ونعومتها، فكان معلمه الخفي ورفيق روحه.

كانا يقضيان الساعات في الحديث. يتناقشان في معنى العدل، قيمة الصداقة، طموحات الشباب، وخبرات الكهول. أحيانًا كان يونس يقول مازحًا: "يا بني، أنت عيني التي أبصرتُ بها بعد أن فقدت بصري، وأنا قلبك الذي يحدثك حين يضطرب فكرك." فيبتسم سامر ويجيبه: "صدقت يا صديقي، فنحن نكمل بعضنا كجناحين لطائر واحد."

في أحد الأيام المشمسة، انتشر خبر مهم في القرية. فقد أعلن المجلس المحلي عن تنظيم مسابقة كبرى للشعر، حيث سيتنافس المشاركون على إلقاء أجمل القصائد أمام لجنة من الحكماء، والجائزة كانت صندوقًا ثمينًا من الذهب يكفي لإعالة أسرة كاملة لسنوات. لم يكن الحدث عاديًا؛ فالقرية لم تشهد منذ زمن طويل مثل هذه الفعاليات التي تجمع الناس على حب الأدب والفنون. سرعان ما امتلأت الأزقة والأحاديث بالتحليلات والتوقعات: من سيفوز؟ من لديه الموهبة؟ من يجرؤ على الوقوف أمام الناس؟

كان سامر أول من خطر في بال الجميع. فهو شاب بليغ، يحسن انتقاء كلماته، وكثيرًا ما أدهش القرويين بخطاباته الحكيمة. لكن المفاجأة أن سامر، حين قرأ الإعلان، فكر في صديقه يونس. توجه إليه مسرعًا، وعيناه تلمعان بحماس. جلس بجواره وقال: "يا صديقي، أخبرني، هل خطر في بالك أن تشارك في هذه المسابقة؟"

ضحك يونس في البداية، وظن أن صديقه يمزح. لكنه سرعان ما لمح في صوت سامر جدية عميقة، فأجاب بابتسامة فيها شيء من التحدي: "ولِمَ لا؟ صحيح أنني لا أرى، لكن قلبي يرى أكثر مما تتصور. إذا ساعدتني أنت في اختيار القصيدة وتدريبي على إلقائها، فلن أخشى شيئًا."

فرح سامر بجوابه، وقال: "هذا هو ما أردت سماعه. سنعمل معًا، وسنجعل كلمات الشعر تخرج من قلبك قبل لسانك، حتى تصل إلى كل من يسمعها."

منذ ذلك اليوم، تحولت لياليهما إلى جلسات تدريب. كان سامر يفتح الكتب القديمة ويقرأ بصوت عالٍ أجمل القصائد. يونس يستمع بكل جوارحه، يغلق عينيه، ويترك الكلمات تتغلغل إلى أعماقه، حتى يحفظها كأنها جزء منه. كان يسأل أحيانًا: "كيف كان الشاعر ينظر إلى الدنيا حين كتب هذا البيت؟ صف لي إحساسه." فيبدأ سامر في الشرح، فيبني يونس داخل نفسه صورة أوسع من الكلمات، صورة فيها مشاعر، ألوان، وأصوات. شيئًا فشيئًا، صار يونس يلقي الأبيات بصوت رخيم، يخرج من قلبه أكثر مما يخرج من لسانه.

في إحدى الليالي، جلسا معًا قرب ضوء مصباح زيت صغير. انتهى سامر من قراءة قصيدة مؤثرة، فقال يونس: "أشعر أن هذه هي القصيدة التي سأشارك بها. فيها قوة وعاطفة، وفيها حكمة تناسب رجلًا مثلي." رد سامر بابتسامة: "إذن فلنحفظها جيدًا، وسأدربك على نبرات الصوت، متى ترفع نبرتك ومتى تخفضها، متى تصمت للحظة، ومتى تترك الصمت يتكلم."

حل يوم المسابقة، واجتمع أهل القرية في ساحة كبيرة زُيّنت بالأقمشة الملوّنة والفوانيس. جلس الحكام على منصة مرتفعة، وجلس الجمهور متشوقًا للاستماع. بدأ المشاركون واحدًا تلو الآخر. بعضهم ألقى قصائده بخوف، فارتجف صوته. وبعضهم تحمس أكثر من اللازم، ففقد السيطرة على الإلقاء. ثم جاء الدور على يونس.

سار يونس بخطوات ثابتة، ممسكًا بعصاه، وإلى جانبه صديقه سامر يقوده. ارتفعت همسات الجمهور: "أيعقل أن يشارك رجل أعمى في مسابقة كهذه؟" لكن يونس لم يلتفت إلى الهمسات. وقف في منتصف الساحة، تنفس بعمق، وبدأ يلقي القصيدة. خرج صوته واضحًا، عميقًا، يحمل قوة التجربة وصدق المشاعر. كان كأنه يغني الكلمات لا يرددها. وفي كل بيت، شعر الجمهور أنه ينظر إليهم رغم فقدانه للبصر، وكأنه يرى ما بداخلهم لا ما أمامهم.

عمّ الصمت الساحة. الأطفال، الرجال، النساء، الجميع كان مأخوذًا بالأداء. وعندما انتهى، انفجرت القاعة بالتصفيق والهتاف. دمعت عيون البعض، وأشاد الحكام بقوة أدائه. أعلنوا فوزه بالجائزة الكبرى دون تردد.

حينها، تقدم سامر إليه، صافحه وقال وهو يبتسم بفخر: "لقد أثبت للجميع أن البصيرة الحقيقية ليست في العينين، بل في القلب والروح." أجابه يونس متأثرًا: "وأنت أثبت لي أن الصداقة يمكن أن تصنع المعجزات."

لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد. بعد فوزه، أصبح يونس رمزًا للأمل في القرية. صار الكثير من الناس يقصدونه، ليس لشراء السجاد فقط، بل للاستماع إلى قصائده ونصائحه. أما سامر، فقد تعلم درسًا عظيمًا في التواضع، فلم يعد يرى نفسه مجرد معلم للآخرين، بل صار تلميذًا للحياة ولتجارب صديقه.

اتفق الاثنان على أن لا يحتفظا بالنصر لأنفسهما. استخدموا جزءًا من الجائزة لمساعدة الفقراء، وجزءًا آخر لتنظيم أمسيات شعرية في القرية، يدعون فيها الشباب للتعبير عن أنفسهم. ومع مرور الوقت، تغيّرت أجواء القرية. صار الناس أكثر اتحادًا، أكثر وعيًا بقيمة الكلمة، وأصبحت الصداقة بين سامر ويونس مضرب المثل.

وذات مرة، جلس يونس في السوق، وحوله مجموعة من الأطفال يستمعون إلى قصصه. اقترب سامر وقال: "انظر إليهم يا صديقي، إنهم يتعلمون منك أكثر مما تعلموا مني." أجاب يونس بابتسامة هادئة: "وهذا بفضلك أنت، فلولاك لما وقفت أمام الناس ولا صدقت أن لي مكانًا بينهم." قال سامر: "بل لولا قلبك الذي يرى، لما صدقت أن العيون قد تخطئ أحيانًا."

هكذا استمرت الصداقة بين الرجلين، لتصبح رمزًا خالدًا في القرية. تعلم الجميع أن القوة لا تكمن في الجسد، بل في الإرادة. وأن البصيرة ليست في العيون، بل في الروح. ومع مرور الأيام، لم يبقَ اسم يونس مجرد بائع سجاد، ولا اسم سامر مجرد معلم، بل صار الاثنان معًا مصدر إلهام للأجيال، وأسطورة تحكى لكل من يظن أن عجزه عائق أمام أحلامه.

إرسال تعليق

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

أحدث أقدم
تابعنا علي مواقع التواصل الاجتماعي