في إحدى الغابات الكثيفة المليئة بالأشجار العملاقة والظلال المتشابكة، حيث تتخلل أشعة الشمس بخجل عبر أوراق الشجر الكثيفة لتترك بقعًا ذهبية على الأرض المليئة بالعشب والأوراق اليابسة، عاش ثعلب ذكي وماكر. كان جحره الصغير مبنيًا بعناية تحت جذع شجرة قديمة، بحيث يصعب على أي حيوان آخر أن يكتشفه بسهولة. كان الثعلب يدرك أن الحياة في هذه الغابة القاسية لا تعتمد فقط على القوة، بل تحتاج إلى مكر وذكاء ليتمكن من النجاة وسط الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة.
وبالقرب من جحر الثعلب، كان يعيش سنجاب نشيط ذو ذيل كثيف طويل، لونه بني يميل إلى الحمرة، يضفي عليه مظهرًا جذابًا. كان السنجاب يقضي معظم وقته في القفز بين أغصان الأشجار العالية وجمع المكسرات والبذور وتخزينها في جحور صغيرة صنعها بمهارة، حتى يضمن لنفسه ما يكفيه من الطعام في فصل الشتاء البارد.
وفي يوم من الأيام، بينما كان الثعلب يتجول ببطء بين الأشجار في رحلة بحث عن فريسة مناسبة، اصطدم فجأة بالسنجاب الذي كان يجري بسرعة هائلة حاملاً بعض الجوز في فمه. لم يكن الاصطدام قويًا، لكن كلاهما سقط أرضًا وسط كومة من الأوراق اليابسة. ضحك الثعلب بصوت عالٍ وهو ينفض الغبار عن فرائه البرتقالي الكثيف وقال ساخرًا:
"هههههه! كم هو سخيف أن تركض بهذه السرعة يا صغير السنجاب! كدت أن تسقط نفسك في حضني كفريسة سهلة!"
رفع السنجاب رأسه بغضب ممزوج بالكبرياء وأجاب بجرأة لم يتوقعها الثعلب:
"أنا لا أجري كي أهرب منك، أيها الثعلب المتباهي، بل أجمع الطعام الذي سأحتاجه لفصل الشتاء. ولست بحاجة لتعليمك كيف تعثر على طعامك أنت أيضًا! إن كنت تفتقد الحكمة، فلا تلومني على اجتهادي."
ساد الصمت للحظة، فقد أدهش رد السنجاب الثعلب وأثار غضبه في الوقت نفسه. كان الثعلب معتادًا على أن تخاف منه الحيوانات الصغيرة، لكنه لم يكن يتوقع أن يتحداه مخلوق صغير مثل السنجاب بهذا الشكل. أخذ يفكر بخبث في طريقة للانتقام ورد اعتباره.
مرت أيام قليلة، وأثناءها رسم الثعلب خطة ماكرة لإيذاء السنجاب، لا بالأسنان أو المخالب، بل بالخوف، فهو يعلم أن الخوف يضعف أي كائن مهما كان شجاعًا. قرر أن يوهم السنجاب بوجود وحش مرعب في الغابة، وحش لا يرحم أحدًا ويطارد فريسته حتى النهاية.
في أحد الأيام، التقى الثعلب بالسنجاب مصادفة، فوجده متوترًا وعيناه تتحركان بسرعة وكأنه يبحث عن شيء يطارده. اقترب منه الثعلب متظاهرًا بالاهتمام وسأله:
"ما بالك يا صديقي الصغير؟ تبدو وكأنك رأيت شبحًا! لماذا كل هذا القلق؟"
أجاب السنجاب وهو يلهث:
"لقد سمعت أن وحشًا ضخمًا يجوب هذه الغابة، يختبئ بين الأشجار ويختار فريسته بعناية، ثم يطاردها حتى يقبض عليها. يقولون إن صوته وحده يجعل القلوب ترتجف من الخوف."
ابتسم الثعلب بخبث في داخله، فقد بدأت خطته تنجح. ومنذ ذلك اليوم، صار يختبئ بين الشجيرات ليلاً، ويصدر أصواتًا غريبة تشبه العواء المخيف، ويهز الأغصان بقوة حتى تتساقط الأوراق. كان السنجاب المسكين يعتقد أن الوحش يطارده في كل مكان، فيركض مذعورًا ويختبئ في جحره لفترات طويلة دون أن يجرؤ على الخروج لجمع طعامه.
مرت الأيام، وبدأ السنجاب يفقد نشاطه المعتاد. كان جسده يزداد نحولًا بسبب قلة الطعام، وعيناه غارقتان في القلق والخوف. لم يعد يقفز بمرونة على الأغصان كما كان، بل صار يتلفت يمينًا ويسارًا في كل مرة يخرج فيها من جحره. الثعلب من جانبه كان يستمتع بمشهد رعب السنجاب، ويعتبره انتصارًا لمكره ودهائه.
لكن في أحد الأيام، حدث ما لم يتوقعه الثعلب. بينما كان يتسلل ليفزع السنجاب من جديد، سمع فجأة خفق أجنحة قوية في السماء. رفع رأسه فرأى مجموعة من النسور السوداء العملاقة تحوم فوقه. ما لبثت أن هبطت بسرعة خاطفة بينه وبين السنجاب، لتهاجمهما معًا. ارتبك الثعلب، ولم يجد أمامه سوى الركض بكل قوته محاولًا الهروب، بينما انطلق السنجاب بسرعة مذهلة إلى أعلى الشجرة.
في تلك اللحظة، أدرك الثعلب أن لعبته الشريرة انقلبت ضده. فبدل أن يخيف السنجاب، وجد نفسه مطاردًا من قبل طيور جارحة حقيقية، لا تعرف الرحمة. ركض بكل طاقته بين الأشجار حتى ابتعدت النسور عنه، ثم جلس يلهث ويحدق في الأرض متذكرًا مكيدته.
على الجانب الآخر، كان السنجاب يراقبه من أعلى الشجرة، ثم انفجر ضاحكًا وقال بصوت عالٍ:
"ههههه! عليك أن تكون أكثر حذرًا أيها الثعلب. الأخطاء في الغابة ليست مجرد لعبة، فقد تكون حياتك هي الثمن!"
ارتسمت على وجه الثعلب علامات ندم حقيقي، وتذكر كيف تسببت خطته في معاناة السنجاب لعدة أيام بلا سبب. لأول مرة شعر أن مكره جلب عليه الخزي بدل الفخر. اقترب من الشجرة التي يقف عليها السنجاب، ورفع صوته قائلاً:
"أيها السنجاب، أعترف أنني أخطأت. أردت أن أخيفك فقط، لكنني لم أدرك أن الأمر سيعود عليّ بالضرر. لقد كنت أحمق، فهل تقبل اعتذاري؟"
ظل السنجاب صامتًا لبرهة، ثم أجاب بهدوء:
"الاعتراف بالخطأ فضيلة، أيها الثعلب. لكن الصداقة أعظم من أن تلوثها بالخداع. إن كنت صادقًا فيما تقول، فلنثبت ذلك بالتعاون، لا بالعداء."
منذ ذلك اليوم، تغيرت العلاقة بينهما تمامًا. أصبح الثعلب والسنجاب صديقين حميمين، يتعاونان معًا في جمع الطعام، ويتقاسمان ما يجدانه. كان السنجاب يساعد الثعلب على اكتشاف أماكن جديدة للبذور والمكسرات، بينما ساعد الثعلب السنجاب في حماية جحوره من بعض الحيوانات المفترسة. تعلم الثعلب أن الذكاء ليس وسيلة للشر فقط، بل يمكن أن يكون أداة للخير وبناء الصداقات.
ومع مرور الأيام، أصبحت الغابة أكثر هدوءًا. فلم يعد السنجاب خائفًا، بل عاد إلى نشاطه المعتاد، يقفز بين الأغصان ويجمع طعامه. أما الثعلب، فقد صار يبتسم كلما تذكر كيف كاد يفقد حياته بسبب مكيدته، وتعلم درسًا لا ينسى: أن المكر قد ينقلب على صاحبه إن لم يقترن بالحكمة.
لقد أدركت الحيوانات الأخرى في الغابة هذا التغير أيضًا. فصار الجميع ينظر إلى الثعلب باحترام جديد، ليس لأنه ماكر، بل لأنه تعلم أن الخير أقوى من الخداع. أما السنجاب، فقد أصبح رمزًا للشجاعة والإصرار، لأنه واجه خوفه، وتغلب على الوهم الذي صنعه عدوه ليقيّد حياته.
وبهذا، تحولت قصة الثعلب والسنجاب من عداوة مريرة إلى صداقة حقيقية، تُروى عبر الأجيال كحكاية عن الدهاء والتوبة، وعن القوة التي تنبع من التعاون لا من الخداع.