في قديم الزمان، في قلب غابة كثيفة تتشابك فيها الأشجار وتتداخل أغصانها حتى تحجب نور الشمس عن الأرض، كانت هناك قرية صغيرة أشبه بجوهرة مخفية في أحضان الطبيعة. هذه القرية لم تكن عادية؛ إذ عاش فيها البشر والجن جنبًا إلى جنب في توازنٍ غريب أثار فضول كل من سمع عنها. فقد تناقلت الأساطير عبر الأجيال حكايات عن هذا التعايش الفريد، وكيف أن البشر والجن تبادلوا المعرفة والخبرات، وتشاركوا في بناء الحياة اليومية، حتى أصبحوا جزءًا واحدًا من نسيج هذه الأرض.
وسط هذه القرية كان يعيش شاب يُدعى عبد الرحمن. كان معروفًا بين الناس بطيبة قلبه وشجاعته التي لا تهتز أمام الصعاب. ورث عن والده مهارة الزراعة ورعاية الأرض، وعن والدته الحكمة والصبر. كان عبد الرحمن يعمل منذ شروق الشمس وحتى غروبها، لا يبخل بجهده على قريته ولا على جيرانه، فكان محبوبًا بين الجميع. ومع ذلك، كان قلبه يشعر دائمًا بفراغ غامض، وكأن شيئًا ما ينقص حياته.
وذات يوم، وبينما كان عبد الرحمن يتجول في أطراف الغابة، لمح وهجًا خافتًا بين الأشجار. اقترب بحذر، وإذا به يرى فتاة ذات ملامح آسرة وعيون تلمع كالنجوم. كانت سلمى، إحدى الجن الطيبين الذين عاشوا في القرية منذ زمن بعيد لكن نادرًا ما يظهرون للبشر. كانت تتمتع بروح شفافة وابتسامة تنشر الطمأنينة في القلوب. لم يكد عبد الرحمن يتبادل معها بضع كلمات حتى شعر بأن القدر قد رسم لهما مسارًا خاصًا، فقد وجد في عينيها الأمان الذي افتقده، ووجدت هي في صدقه وصفاء قلبه شيئًا لم تره بين أبناء الجن.
مرت الأيام سريعًا، وازداد اللقاء بينهما حتى تحول الإعجاب إلى حب صادق. كانا يتحدثان عن أحلامهما المشتركة، عن السلام بين العالمين، وعن بناء حياة لا يفرقها جنس أو أصل. ومع مرور الوقت قررا أن يتزوجا، متحدّين بذلك مخاوف البشر وتحذيرات الجن. فقد كان بين أهل القرية من يهمس في الظلام أن زواج البشر من الجن يجلب النحس، بينما حذر بعض الجن سلمى من أن البشر لا يتقبلون اختلافهم مهما أظهروا من تسامح. لكن الحب كان أقوى من كل تلك الأصوات.
تم الزواج في احتفال بسيط بين أشجار الغابة، حضره قلة من المقربين الذين آمنوا بالحب أكثر مما آمنوا بالخرافات. عاش عبد الرحمن وسلمى أسابيع مليئة بالسعادة والهناء، يضحكان معًا، يزرعان الأرض جنبًا إلى جنب، ويخططان لمستقبل مختلف يحمل السلام للقرية كلها. لكن هذه السعادة لم تدم طويلاً.
فقد بدأت الهمسات تتسلل بين سكان القرية. كان البعض يراقب سلمى بنظرات حذرة، وآخرون يتهامسون بأن وجودها سيجلب غضب الشياطين. ومع مرور الوقت، لم تقتصر الهمسات على البشر فقط، بل وصلت أخبار هذا الاتحاد غير المعتاد إلى مسامع الشياطين الذين كانوا يعيشون في الظلال، يترقبون الفرص لبث الفتنة والدمار.
وفي إحدى ليالي الشتاء القارس، استيقظ أهل القرية على أصوات غريبة تنبعث من بيت عبد الرحمن وسلمى. كانت أصواتًا مزيجًا من صرخات وأنين، يتخللها صدى غامض وكأن الغابة كلها تهتز معها. هرع الناس إلى المنزل، وحين اقتحموا الباب وجدوا عبد الرحمن وحيدًا يصرخ بأعلى صوته، بينما اختفت سلمى ولم يتبقَ منها سوى آثار غريبة على الجدران وأرض الغرفة، كأنها ظلال سوداء تركها الشر وراءه.
منذ تلك الليلة، تغيرت حياة عبد الرحمن تمامًا. لم يعد الرجل الذي عرفوه. أصبح يقضي أيامه ولياليه في البحث عن سلمى، يتجول بين الغابات المظلمة والمستنقعات الغامضة، يسأل كل من يلتقيه من البشر أو الجن عن أي أثر يدل على مكانها. كان قلبه متمسكًا بالأمل، رغم أن العقول من حوله فقدت الإيمان بعودتها.
وبينما كان يتوغل ذات ليلة في الغابة العميقة، صادف كيانًا مظلمًا ضخم البنية، عيناه تتقدان كالجمر. كان زهران، شيطانًا قديمًا اشتهر بدهائه وقوته، يعرف أسرار العوالم المخفية. حين علم زهران بمأساة عبد الرحمن، عرض مساعدته ولكن بثمن باهظ. طلب منه أن يقدم قربانًا من قوته وحياته، شيئًا لا يمكن استعادته. تردد عبد الرحمن كثيرًا، لكنه لم يجد خيارًا آخر. وافق على الصفقة، مستعدًا للتضحية بأي شيء في سبيل استعادة سلمى.
بدأت رحلة البحث تتخذ منحى جديدًا. مع إرشادات زهران، تمكن عبد الرحمن من عبور بوابات خفية تربط عالم البشر بعوالم الجن والشياطين. واجه أرواحًا هائمة، وتحدى وحوشًا لم يعرف لها البشر مثيلًا. وفي كل مواجهة كان يخسر جزءًا من قوته، لكنه يزداد إصرارًا على الوصول إلى سلمى. وبعد أسابيع طويلة من المعاناة، استطاع أخيرًا أن يعثر عليها. كانت محتجزة في قصر مظلم تحرسه كيانات مرعبة، لكن شجاعته وحبه منحاه القوة ليحطم القيود وينقذها.
عاد عبد الرحمن وسلمى إلى القرية، والفرحة تغمرهما. استقبلهما بعض الناس بالبكاء والدموع، لكن الآخرين لم يخفوا خوفهم ورفضهم. كانوا يرون في عودة سلمى تهديدًا أكبر من اختفائها. بدأت الانقسامات تظهر بين البشر والجن مجددًا، وتعالت الأصوات الرافضة لوجودها بينهم.
حاول عبد الرحمن جاهدًا أن يعيد الثقة والسلام. دعا الناس إلى وليمة كبيرة، تحدث إليهم عن الحب الذي يجمعه وسلمى، وعن أن التعايش ممكن إذا ما تخلوا عن الخوف والأحكام المسبقة. لكن كلماته لم تجد صدى في قلوبهم. بقيت نظرات الشك تطارد سلمى، وبقيت whispers الظلام تزداد قوة.
بعد محاولات عديدة باءت بالفشل، أدرك عبد الرحمن وسلمى أن القرية لم تعد مكانًا لهما. لم يعد هناك أمل في أن يقبلهم الناس كما هم. وفي ليلة هادئة، تحت ضوء القمر، قررا الرحيل معًا إلى عالم آخر بعيد عن البشر والجن، عالم لا يعرف الخوف ولا الأحكام.
غادرا القرية وقلبيهما مثقلان بالحزن. كانا يعلمان أن التضحية لم تكن في حبهما فحسب، بل في ترك المكان الذي نشآ فيه والذكريات التي حملاها. لكنهما فضلا أن يعيشا في عزلة معًا على أن يظلا في صراع مع عالم يرفض اختلافهما.
ومنذ ذلك الحين، تحولت قصتهما إلى أسطورة تتناقلها الألسن. يرويها الشيوخ للأطفال ليعلموهم أن الحب قد يكون قويًا بما يكفي لتحدي المستحيل، لكنه قد يعجز أمام قلوب مليئة بالخوف والشك. وهكذا بقيت قصة عبد الرحمن وسلمى خالدة، قصة عشق وتضحية بين بشر وجن، وكيف فشل حبهما في تغيير عالمين لم يستطيعا قبول المختلف مهما كان نقيًا.