قصة ماري والجني الحارس

SAMY ELSAGHlR
0

كانت ماري تعيش حياة هادئة في قرية صغيرة تقع في قلب الغابات الكثيفة، تلك الغابات التي كانت تلتف حول القرية كالأحضان، تحميها في النهار وتخيفها في الليل. كانت القرية بسيطة، بيوتها مبنية من الخشب، وأهلها يعيشون على الزراعة وتربية الماشية. أما ماري، فكانت مختلفة قليلاً عن بقية نساء القرية؛ كانت مثقفة، طيبة القلب، ورقيقة الروح. تعمل معلمة في المدرسة الابتدائية، وتحب الأطفال حباً كبيراً، إذ كانت ترى فيهم الأمل والنقاء الذي تفتقده في نفسها أحياناً.

قصة ماري والجني الحارس

كانت ماري جميلة على نحوٍ لا يُوصف، بشعر ذهبي طويل كأشعة الشمس عند الغروب، وعينين زرقاوين صافيتين كصفاء السماء بعد المطر. ومع ذلك، كانت تعاني من وحدة عميقة لا يعرفها أحد. كانت كل ليلة تعود إلى منزلها الصغير المطل على أطراف الغابة، وتشعل المدفأة، وتجلس بجانبها تحت ضوء خافت، تقرأ أو تكتب في دفترها الصغير الذي تملؤه أحلام مؤجلة وأسئلة بلا إجابات.

كانت تشعر أن هناك شيئاً ما ينقصها، شيئاً غامضاً، كأن حياتها تنتظر لحظة غير متوقعة ستغير مسارها إلى الأبد.

في إحدى الليالي الباردة من فصل الشتاء، كانت الرياح تعصف بقوة بين الأشجار، تصدر صفيراً يشبه العويل. جلست ماري بجانب المدفأة، تحتسي كوباً من الشاي الساخن، وقد لفّت نفسها ببطانية صوفية. وفجأة، سمعت نباح الكلاب في الخارج يتعالى بطريقة غير مألوفة. رفعت رأسها في قلق، واستدارت نحو النافذة، فرأت الظلام حالكاً أكثر من المعتاد. حاولت تجاهل الأصوات، لكنها ازدادت غرابة، كأنها ليست صادرة من كلاب فقط، بل من مخلوقات أخرى.

اقتربت بحذر من النافذة، وسحبت الستارة قليلاً، فرأت منظراً جعل الدم يتجمد في عروقها. كانت هناك جنية تقف في منتصف الطريق، يحيط بها ضوء غريب يميل إلى الأزرق الداكن، شعرها طويل يتطاير مع الريح، وملامحها فاتنة لكنها مرعبة. لم تكن تشبه الجنيات التي قرأت عنها في القصص القديمة؛ كانت عينيها تتوهجان كالنار، وابتسامتها تحمل شراً خالصاً.

تراجعت ماري خطوة إلى الوراء، لكن الجنية التفتت إليها وكأنها أحست بنظراتها. وفي لحظة، اختفى جسدها من مكانه، لتسمع ماري طرقاً قوياً على باب منزلها، ثم صمتاً تاماً.

تسارعت أنفاس ماري، ارتجفت يداها وهي تمسك بمقبض الباب من الداخل، لكن قبل أن تفكر، تحطم الزجاج فجأة، ودخلت الجنية من النافذة وهي تصرخ بصوت مرعب اخترق أذن ماري كالسهم. لم تصدق ما تراه، فالجنية كانت تتحرك بسرعة لا تُرى، وقبل أن تتمكن من الهرب، وجدت نفسها ممسكة من شعرها الطويل ومرفوعة عن الأرض.

صرخت ماري بكل قوتها، لكن الجنية كانت أقوى. اقترب وجهها منها وقالت بصوت يشبه الهسيس:
"جمالك يسرق طاقة الغابة... سأجعل هذا الجمال لي!"

ثم حاولت طعنها بمخلبها الطويل، لكن ماري دفعتها بكل قوتها، واندفعت نحو الباب لتفتحه وتهرب إلى الخارج. كانت الأرض مبللة بالثلوج، والبرد يلسع جسدها كالسكاكين، لكنها لم تتوقف عن الركض. كانت تسمع ضحكات الجنية خلفها، كأنها تسخر من محاولاتها اليائسة للهروب.

وفجأة، عندما كادت تسقط من التعب، لمع ضوء ساطع من بين الأشجار، تبعه صوت قوي يقول بكلمات لم تفهمها. توقفت الجنية، وتراجعت إلى الخلف وهي تصرخ بغضب. ومن بين الضباب، ظهر رجل غامض يحمل رمحاً يضيء كالشمس. كانت هيئته مهيبة، يرتدي درعاً فضياً يشع بنور خافت، وعيناه خضراوان تتقدان بالحياة.

صرخ بصوت قوي:
"اتركيها أيتها اللعينة، لقد تجاوزتِ حدودك!"

ترددت الجنية لحظة، ثم اندفعت نحوه بسرعة البرق، لكن الرجل كان أسرع. لوّح برمحه فأطلق منه شعاعاً من الضوء ضرب الجنية في صدرها مباشرة، فصرخت وذابت في الهواء كالدخان. سقطت ماري على الأرض مذهولة مما رأت، والدموع تنهمر على وجهها، بين الخوف والدهشة والارتياح.

اقترب الرجل منها ببطء، وقال بصوت هادئ لكنه قوي:
"أنتِ بأمان الآن، لا تخافي."

رفعت ماري رأسها ونظرت إليه، كانت أنفاسها متقطعة، وصوتها يرتجف حين قالت:

"من أنت؟ وكيف... كيف أنقذتني؟"

ابتسم الرجل بخفة وقال:
"اسمي إيلار، وأنا من أبناء الغابة. لست إنساناً تماماً، لكنني أيضاً لست من أولئك الأشرار الذين رأيتِهم."

شعرت ماري بارتباك شديد، فقد بدا عليه أنه جني أيضاً، لكنه مختلف كلياً عن الجنية التي هاجمتها. كانت عيناه مليئتين بالرحمة، وصوته يحمل دفئاً لم تشعر به منذ زمن. جلس بجانبها وأخرج قطعة من الحجر المضيء، مررها على جرح صغير في يدها فاختفى الألم فوراً.

قالت ماري بدهشة:
"هل أنت... جني طيب؟"
ابتسم وقال:
"ليس هناك جن طيب أو شرير بطبيعته يا ماري، الأمر يتعلق بما نختاره نحن. الجنية التي هاجمتك اختارت طريق الظلام، أما أنا... فقد اخترت حماية النور."

منذ تلك الليلة، تغيّر كل شيء في حياة ماري. لم تستطع نسيان ما حدث، ولا الرجل الغامض الذي أنقذها. وفي كل ليلة، كانت تخرج إلى شرفة منزلها وتنظر نحو الغابة، وكأنها تنتظر ظهوره من جديد. وذات مساء، بينما كانت تنظر إلى الأفق، سمعت صوته يأتي من بين الأشجار:

"هل تفتقدين النور يا ماري؟"

ابتسمت برقة، وأجابت:
"بل أفتقد الأمان الذي شعرت به حين كنت هنا."

اقترب منها ببطء، وكان يحمل تلك الهالة المضيئة حوله، ثم قال:
"لقد وعدت نفسي أن أحميك، فالجنيات الظلاميات لم يختفين بعد. ما حدث لم يكن سوى البداية."

مرت الأيام، وأصبح إيلار يظهر لماري باستمرار، يساعدها في حماية القرية من قوى خفية كانت تزداد نشاطاً. علّمها كيف تستشعر الخطر قبل وقوعه، وكيف تستخدم طاقتها الداخلية لتقاوم السحر الأسود. بدأت ماري تشعر بأنها ليست امرأة عادية، بل أنها تملك قوة خفية لم تكن تعرفها.

وفي إحدى الليالي، أخبرها إيلار أن الجنية التي هاجمتها لم تمت، بل عادت لتجمع جيشاً من الظلال لتنتقم منها ومن القرية بأكملها. حينها قررت ماري ألا تكون ضحية بعد الآن. قالت له بثقة لم يعهدها فيها:
"لقد تعبت من الخوف، حان الوقت لأن أواجهها بنفسي."

أعجب إيلار بشجاعتها، وأعطاها قلادة من الضوء قائلاً:
"هذه القلادة تحمل طاقة الغابة النقية، استخدميها عندما تشعرين بأن الظلام يقترب منك. النور في داخلك يا ماري، لا تنسي ذلك."

حلّ الليل الأخير، وكانت الرياح تعصف بشدة. وقفت ماري في وسط الساحة أمام المدرسة القديمة، حيث أخبرها إيلار أن المعركة ستبدأ. وفجأة، ظهرت الجنية الشريرة من العدم، يرافقها ضباب أسود كثيف يغطي القرية بأكملها. ضحكت بصوت عالٍ وهي تقول:

"ظننتِ أنكِ نجوتِ مني؟ الجمال الذي تمتلكينه لن يظل لكِ طويلاً، سأجعله وقوداً لقوتي!"

أمسكت ماري القلادة بكلتا يديها، وأغمضت عينيها، ثم تذكرت كل لحظات الخوف والألم التي مرت بها، وكل الوجوه التي أحبتها في القرية. فجأة، انطلقت من القلادة موجة ضوء قوية غمرت المكان كله، جعلت الجنية تصرخ بألم وهي تتلاشى شيئاً فشيئاً حتى اختفت نهائياً.

عندما انتهى كل شيء، فتحت ماري عينيها فوجدت إيلار يقف أمامها مبتسماً. قال لها بفخر:
"لقد فعلتِها يا ماري... لقد هزمتِ الظلام دون أن تفقدي نقاء قلبك."

بعد تلك الليلة، عادت الحياة إلى طبيعتها في القرية. لم تعد هناك أصوات غريبة، ولا ظلال في الليل. أصبحت ماري بطلة في أعين الجميع، لكنهم لم يعرفوا أن ما حدث كان أكثر من مجرد معركة بين الخير والشر. لقد كان اكتشافاً للذات، فماري أدركت أن القوة الحقيقية ليست في السحر أو الأسلحة، بل في القلب النقي الذي يواجه الخوف بالحب.

أما إيلار، فقد اختفى في الغابة بعدما ودّعها قائلاً:
"حين يحتاج النور إلى من يحميه، سأكون هنا من جديد."

لكن ماري كانت تعلم في قلبها أنه لم يرحل فعلاً، بل أصبح جزءاً من روحها، يراقبها من بعيد، ويحرسها كما وعد

مرت سنوات، وكبرت ماري، لكنها لم تنسَ تلك الليالي التي غيّرت مصيرها إلى الأبد. كانت تقف أحياناً أمام صفوف الأطفال في المدرسة، وتروي لهم قصصاً عن الشجاعة، عن الإيمان بالنور حتى في أحلك اللحظات. لم تذكر لهم اسم الجني الذي أنقذها، لكنها كانت تنهي قصتها دائماً بعبارة واحدة:

"الخير لا يحتاج جناحين ليطير، يكفي أن يسكن قلباً يؤمن به."

وفي كل مرة كانت تنطق بهذه العبارة، كانت تشعر بنسمة دافئة تمر بجانبها، كأن إيلار يبتسم من بين الأشجار، مطمئناً أن وعده لا يزال محفوظاً.

وهكذا، بقيت ماري رمزاً للنور في قرية كانت تغمرها الظلال يوماً، وذكرى حية لأن الإيمان بالخير يمكن أن يهزم أقسى أنواع الظلام، ما دام هناك قلب لا يستسلم.

إرسال تعليق

0 تعليقات

تفضلوا بزيارتنا بانتظام للاستمتاع بقراءة القصص الجديدة والمثيرة، ولا تترددوا في مشاركة تعليقاتكم وآرائكم معنا.

إرسال تعليق (0)
3/related/default